للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تنتهي. . . فمن أعطى المليون أبتغي المليونين، ومن رفع في الوظيفة درجة طلب درجتين فلا يزال في سقاءين شقاء بالحاضر الذي لا يقنع به وبالآتي الذي لا يصل أليه. . .

أفلهذا وجدت وسعيت أربعين سنة؟ أسعيت لأدرك السراب؟

وتتالت على الفكر، وعاودني الضيق الذي طالما كاد يدفعني (لولا خوف الله) إلى طلب الموت من سنين، وما أشكو المرض فصحتي جيدة ولا أشكو الفقر فأجد من المال يكفيني، وإنما أشكو فراغا في النفس لا أعرف مأتاه وقوى في لا أجد لها مصرفا وحنينا إلى شئ غامض لا أدري ما هو على التحقيق. . .

وتركت القلم والورق وقمت أدور في الغرفة فوجدت على نضد إبريقا من البلور الصافي، طويل العنق واسع البطن فيه نحلة قد دخلت ولم تستطع الخروج، فهي تتحفز وتتجمع وتثب مقدمة بقوة وباس، فيضرب الزجاج رأسها ويردها فتعاود الكرة، وهي لا تبصر الجدار، وإنما تبصر ما وراءه فحسب أنه ليس بينها وبين الفضاء حجاب فجعلت أنظر إليها وهي تعمل دائبة كلما ضربت مرة عادت تحاول أخرى، لا تقف ولا تستريح، حتى عددت عليها أكثر من أربعين مرة، تجد الصدمة كل مرة فلا تعتبر ولا تدرك الحقيقة، ولا ترفع رأسها لتبصر الطريق وتعلم أن سبيل الفضاء، وباب الحرية هو من (فوق) لا عن يمين ولا عن شمال. . .

فتعلمت من هذه النحلة ما كان خافيا عني: تعلمت أننا مثل هذه النحلة نحسب أن الانطلاق أنما يكون على الأرض فنقدم، فتضرب العوائق وجوهنا وتردنا، فنقعد يائسين، أو تعاود الكرة مستميتين، نحسب الانطلاق في الشهرة أو في المال، أو في متع الجمال، وهيهات. . وهاهم أولاء السياسيون والممثلون والمغنون، تطبق الأرض باحثيهم، ويشتغل الناس بأخبارهم، ويرون صورهم ويسمعون أصواتهم فما الذي يحصل من ذلك في أيديهم، وماذا ينفعك أن يكون الناس كلهم يمدحونك إذا كنت منفردا في غرفتك مبتئسا، تعس النفس محزون القلب؟ وها هم أولاء الشباب الأغنياء يؤمون كل ملهى ويستمتعون كل يوم بجمال جديد، فهل ذهب ظمأ قلوبهم إلى ارتياد منابع جدد لك ظمأ؟

وها هم أولاء المحبون المدفون، يعانقون من يحبون والنفس لا تزال بعد مشوقة ليس يرويها عناق ولا أقترب، ولا يشبعها شئ من متع الجسد.

<<  <  ج:
ص:  >  >>