ومحمدة ما فوقها من محمدة أصبح اليوم - في عرف هذا العصر - تبذيراً وهوساً. وأعوذ بالله ممن يرميه الناس بالتبذير، ألا يتهمونه بالهوس؟ والحلم أصبح ضعفاً وعجزاً، والتقوى تزمتاً ورجعية، والحياءُ نقصاً في الرجولة وأنوثة. وما الفضائل الجلى، والخطوة البالغة، والمكانة السامية إلا في الطباع اللئيمة، والكذب الصراح، والتملق الشائن، والخلق اللدن، والمثالب الفاضحة، والسفالة الواضحة.
هي الأخلاق تنصهر بالموضة وتميع، ومتى ماعت جرت - حسب قوانين السوائل من فوق إلى تحت - من ذروة سمو النفس، إلى دركة حيوانية الطبع، وتشكلت بشكلها والعياذ بالله!
أين ذاك الزمان الذي كان يتنافس فيه الأقران على اجتذاب حبل الفضيلة بوأد حيوانية الطبع، وعلى سمو النفس بصلب سفالة الشهوة، وعلى زعامة الخلق بإنكار أنانية الذات، مِن هذا العصر الذي تدلت فيه معنويات الفضيلة، فحبل الشهوات البهيمية على الغارب، وخسة الطبع والقحة هما من الأخلاق في ذروتها، والتبجح الكاذب مدار الحديث في كل مجلس وناد؟ والأغرب أن الناس إنما يتجاحشون على الرذيلة باسم الفضيلة، ويتمرغون في حمأة الموبقات باسم الأخلاق، ويرتكبون اللتيا والتي باسم التجديد! التجديد الذي شمل الأخلاق وعم الفضائل، فحور فيهما وبدل، ما حور وبدل في الثياب
استعرض الناس على اختلاف طبقاتهم وبيئاتهم، وانظر علامَ يتجاحشون! أعلى الصدق وهم يرونه آفة على جمع المال الذي احتكرته المخاتلة والخداع؟ أم على الحياء وقد أصبح صاحبه مقروناً بالحرمان، كما أصبحت الحظوة من مدلولات القحة؟ أم على الكفاية وقد تغير مقياسها - بتغير الموضة - ولم تعد دليلاً على مقدار رسوخ قدم صاحبها في العلم والعرفان، ولا على مقدار ما في نفسه من معنويات الشرف، وطهارة الوجدان، وإنما على مقدار ما له من جاه عريض، وأصل أثيل، وعلى عدد ما في بطانته من أرباب الرتب الملحوظة، والألقاب الضخمة، والشخصيات المنفوخة: إن صح هذا التعبير كالأفندية! والباكوية! والباشوية! كلا ليس على شيء من هذه الفضائل يتجاحشون، ولِمَ يتجاحشون عليها وهم يرونها - جميعها - قد اختلطت، وتفاعلت، وتركبت في جوهر واحد فقط هو الوظيفة؟