وكان الفرنج قد جمعوا جموعهم وحشدوا أمام عكاء، وجعلوا التغلب عليها مقصد همهم. فكان هناك ملوك ثلاثة هم أكبر ملوك أوربا وزعماء فرسانها. وحاصروا المسلمين في ذلك الثغر من قبل البر ومن قبل البحر، وأتى صلاح الدين من خارج المدينة يحاول رفع الحصار عن إخوانه وجنوده.
واستمات جنود الجانبين في القتال، وبذل كل قصاراه في النضال، وعض على النواجذ من الأضراس. واستطالت بهم الحرب نيفاً وسنتين، حتى اشتد الأمر بالمحصورين، وعجز صلاح الدين عن أن يرفع عنهم نطاق الأعداء، فأخذ ذلك النطاق يتضامن ويشتد، حتى بلغت الشدة بالمحصورين مبلغاً عظيماً، وتراخت همة الدفاع من طول الجهد وشدة القتال.
فذهب جماعة من صيادي عكاء ممن درجوا على أمواج البحر ونشأوا على أمواهه، فعرفوا مداخله ومخارجه، وبرعوا في اقتحام تياراته وخوض غمراته، وعرضوا على قادة المسلمين ما في طاقتهم من المساعدة في ذلك المأزق. وتساءل القادة ماذا عسى هؤلاء يصنعون في قتال العدو؟ وماذا تراهم يستطيعون أن يرزأوا فيه؟ فأقبل عليهم الصيادون يعرضون أن يحملوا الأخبار إلى إخوانهم المحصورين، وأن يحملوا المال إليهم إذ استحال على السلطان الاتصال بهم، وقالوا انهم يستطيعون أن يستتروا بجنح الليل فيسلكوا سبيلهم بين سفن الأعداء سباحة، فإذاما تعذر ذلك سلكوا بينها غاطسين في الماء كما تسلك الأسماك وتسبح الحيتان. وكان صلاح الدين في أشد الحاجة إلى الاتصال بالجنود والقواد الذين يدافعون عن المدينة، فقبل ما عرض هؤلاء الأبطال، وكانوا منذ ذلك الوقت لا ينقطع وافدهم من المدينة إلى عسكر المسلمين، أو من عسكر المسلمين إلى المدينة. وكانوا لا يطلبون في سبيل ذلك جزاء، إن هو إلا قربان يقدمونه احتساباً، وواجب يؤدونه عن رضا وسخاء.
وظهر من بنهم (عيسى العوام) فكان أسرعهم سبحا وأجرأهم على الليل والنهار، وأكثرهم إقداما على الأخطار. فصار يهتف باسمه، ويدعى إذا ما اشتد الخطر وادلهم الخطب. وكان هو لا يخيب ظناً ولا يخيم عند دعوة. وكانت بسالته تزداد كلما ضاقت حلقة الحصار.