والتأمت فروجه واتصلت سلسلته. فكان أقر لعينه وأثلج لصدره أن يغوص في شبر بين سفن الفرنج، أو يسبح على مرمى سهم من نبالهم. وبقي على أداء واجبه مدة حتى طلع يوم، وانتظر أهل عكاء طلوع عيسى عليهم من ثنايا الموج كعادته، فلم يتحقق لهم ذلك. وطال وقوفهم وامتدت أعناقهم نحو البحر، كلما برق لهم شيء سابح، أو لمع لهم جسم طاف، أشاروا إليه إشارة الملهوف، وتوقعوا أن يكون هو عيسى، ثم تبين لهم أنه حباب الماء أو رشاش الموج، فعادوا إلى ناحية أخرى، فشدوا إليها أبصارهم ثم لم يلبثوا أن يجدوا خيبة لظنونهم وتكذيباً لأوهامهم. ولما طال بهم الوقوف وملوا الانتظار انصرفوا وفي قلوبهم هلع وتوقع للمحذور، ولم تخل صدورهم من شكوك ساورتها في أمانة عيسى وديانته. وقديماً كان في الناس الطمع وأعماهم الجشع، وقديماً فتنهم حب المال وأغواهم شيطان الغرور. أيكون عيسى كبعض من خان وافتتن؟ أيكون عيسى ممن خذلتهم نفوسهم عندما استطال بها النضال، وانخلع فؤادهم عندما اكفهر الجو وأظلم؟ لم يرد الله أن يدع تلك الشكوك تساور ذكرى عيسى، ورحم ذلك الرجل أن يهمس هامس عند ذكرى اسمه بما ثار في صدره من شك، فتسود بين الناس صحيفة بيضاء عند الله. فأرسل الموج حاملاً جسمه نحو الشاطئ، ولا تزال حولها أكياس الذهب التي كان بعث بها صلاح الدين معه إلى المدينة. فرأى الناس عند ذلك جثة شهيد قضي وهو يؤدي الأمانة، وجاد بالنفس وهو في سبيل الخير والمجد.
رحم الله (عيسى العوام)! وكم في الناس من مثل عيسى؟ غير أن التاريخ لا يذكر منهم أحداً إلا فلتة ليشير إلى أن بين المجهولين آلاف الألوف من أفذاذ الأبطال.