الحكومية وفي الحوانيت التجارية وفي المجتمعات وفي الشوارع، وفي كل معاملة وفي كل خطوة. بالأمس كنت في محطة السكة الحديدية فذهبت إلى شباك التذاكر وسألت الموظف - في أدب - هل هنا محل صرف التذاكر إلى بلدة كذا؟ فلم يجب، وأعدت السؤال فلم يجب فتولاني شعور ممتزج من غضب وخجل واحتمال لبرودة السؤال وغير ذلك، وما لبث أن جاء أجنبي فسأل مثل هذا السؤال بلغته الأجنبية، فترك الموظف ما في يده وأقبل عليه يكلمه، وأجابه إجابة فيها كل معنى التبجيل والتعظيم، وأختتم كل جملة من جملة بكلمة (سيدي)!، فدهشت من هذا الحال وثرت في نفسي، وتجمع الدم في وجهي، ونلت من الموظف بقدر ما نال مني، ولم أكسب من ذلك كله إلا أن أكتب هذا المقال.
وموقف هذا الموظف تقفه كل الأوساط على اختلاف في مقدار اللياقة والكياسة ولكن الجوهر واحد، فذلك هو الشأن في الأوساط العلمية والتجارية والسياسية، يتكلم الأجنبي كلمة عادية فتكون المثل، وتكون الحكمة، وتكون القول الفصل، ويبدي الرأي فيكون الرأي الناضج والقول الحكيم والغاية التي ليس وراءها غاية، ويطلب الطلب فلا بد أن يجاب، وإذا لم يكن فالاعتذار الحار والوعد بإجابته في ظرف آخر؛ ويدخل المحل التجاري أو يركب القطار أو يدخل النادي فموضع رعاية خاصة؛ ويعمل العمل فيقدر التقدير الغالي في قيمته الأدبية ومكافأته المادية إلى ما يطول شرحه.
وفي هذا من غير شك مذلة للشعور وكبت للنفس واستعباد للمواطن، ومع ذلك يطالبنا السادة الأخلاقيون بالتواضع! لابد أن يفهم الناس في كل مناسبة وفي كل ظرف أن القوم أناس مثلنا لهمك ما لنا وعليهم ما علينا، وأن هؤلاء القوم على أحسن تقدير ضيوفنا لا سادتنا، ومن لحم ودم كلحمنا ودمنا، ولهم عقل ولكن كعقلنا، وسلوك في الأخلاق كسلوكنا، وتصدر منهم الفضيلة والرذيلة كما تصدر عنا، وأنهم ككل البشر يستذلون من أذل نفسه، وأن واجبنا أن نحترمهم في غير مذلة، ونحترمهم لا على حساب احتقار المواطن، وأننا نبادلهم احتراماً باحترام واحتقاراً باحتقار، وأنه إذا حدثتهم أنفسهم بالاعتداء علينا لم نمكنهم، وأن الحكم بيننا وبينهم دائماً أن لنا حقوقاً وعلينا واجبات كحقوقهم وواجباتهم، فإذا طلبوا المساواة فالسمع والطاعة، وإذا طلبوا الإذلال قلنا (لا) بملء أفواهنا.
والأمر الثاني من مظاهر الذلة الذي لا يقل خطراً عن هذا، فهمُ الرئيس لمعنى الرياسة،