وإنما يجب أن يكون كما يجب أن يكون. ولا موعظة في كلام لم يمتلئ من نفس قائله ليكون عملاً فيتحول في النفوس الأخرى عملاً، ولا يبقى كلاماً؛ وإنه ليس الوعظ تأليف القول للسامع يسمعه، لكنه تأليف النفس لنفس أخرى تراها في كلامها، فيكون هذا الكلام كأنه قرابة بين النفسين، حتى لكأن الدم المتجاذب يجري فيه ويدور في ألفاظه.
وكنت رأيت رؤيا (ببلخ) تتصل بقصة قديمة في بغداد، فقصصتها عليهم، فكانت القصة كما حكيتها أني امتحنت بالفقر في سنة تسع عشرة ومائتين؛ وانحسمت مادتي وقحط منزلي قحطاً شديداً جمع علي الحاجة والضر والمسكنة؛ فلو انكمشت الصحراء المجدبة فصغرت ثم صغرت حتى ترجع أذرعها في أذرع لكانت هي داري يومئذ في محلة باب البصرة من بغداد. وجاء يوم صحراوي كأنما طلعت شمسه من بين الرمل لا من بين السحب، ومرت الشمس على داري في بغداد مرورها على الورقة الجافة المعلقة في الشجرة الخضراء؛ فلم يكن عندنا شيء يسيغه حلق آدمي إذ لم يكن في الدار إلا ترابها وحجارتها وأجذاعها، ولي امرأة ولي منها طفل صغير وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفاً كما تهبط الأرض، فلتمنيت حينئذ لو كنا جرذاناً فنقرض الخشب، وكان جوع الصبي يزيد المرأة ألماً إلى جوعها، وكنت بهما كالجائع بثلاثة بطون خاوية، فقلت في نفسي: إذا لم نأكل الخشب والحجارة فلنأكل بثمنها؛ وجمعت نيتي على بيع الدار والتحول عنها وإن كان خروجي منها كالخروج من جلدي لا يسمى إلا سلخاً وموتاً؛ وبت ليلتي وأنا كالمثخن حُمل من معركة فما يتقلب إلا على جراح تعمل فيه عمل السيوف والأسنة التي عملت فيها.
ثم خرجت بغَلَسٍ لصلاة الصبح، والمسجد يكون في الأرض ولكن السماء تكون فيه، فرأيتني عند نفسي كأني خرجت من الأرض ساعة. ولما قُضيت الصلاة رفع الناس أكفهم يدعون الله تعالى وجرى لساني بهذا الدعاء: اللهم بك أعوذ أن يكون فقري في ديني، أسألك النفع الذي يُصلحني بطاعتك، وأسألك بركة الرضى بقضائك، وأسألك القوة على الطاعة والرضى يا أرحم الراحمين.
ثم جلست أتأمل شأني وأطلت الجلوس في المسجد كأني لم أعد من أهل الزمن فلا تجري علي أحكامه، حتى إذا أرتفع الضحى وابيضت الشمس جاءت حقيقة الحياة فخرجت أتسبب لبيع الدار وانبعثت وما أدري أين أذهب، فما سرت غير بعيد حتى لقيني أبو نصر الصياد