وكنت أعرفه قديماً، فقلت: يا أبا نصر! أنا على بيع الدار فقد ساءت الحال وأحوجت الخصاصة، فأقرضني شيئاً يمسكني على يومي هذا بالقوام من العيش حتى أبيع الدار وأوفيك.
فقال: يا سيدي! خذ هذا المنديل إلى عيالك وأنا على أثرك لاحق بك إلى المنزل. ثم ناولني منديلاً فيه رقاقتان بينهما حلوى وقال: إنهما والله بركة الشيخ.
قلت: ما الشيخ وما القصة؟
قال: وقفت أمس على باب هذا المسجد وقد أنصرف الناس من صلاة الجمعة فمر بي أبو نصر بشر الحافي فقال: مالي أراك في هذا الوقت؟ قلت: ما في البيت دقيق ولا خبز ولا درهم ولا شيء يباع. فقال: الله المستعان؛ احمل شبكتك وتعال إلى الخندق، فحملتها وذهبت معه، فلما انتهينا إلى الخندق قال لي: توضأ وصل ركعتين، ففعلت، فقال سم الله تعالى وألق الشبكة، فسميت وألقيتها، فوقع فيها شيء ثقيل فجعلت أجره فشق علي؛ فقلت له ساعدني فإني أخاف أن تنقطع الشبكة، فجاء وجرها معي فخرجت سمكة عظيمة لم أر مثلها سمناً وعظماً وفراهةً. فقال: خذها وبعها وأشتر بثمنها ما يصلح عيالك. فحملتها فاستقبلني رجل اشتراها، فابتعت لأهلي ما يحتاجون إليه، فلما أكلت وأكلوا ذكرت الشيخ فقلت أهدي له شيئاً، فأخذت هاتين الرقاقتين وجعلت بينهما هذه الحلوى وأتيت إليه فطرقت الباب فقال: من؟ قلت أبو نصر! قال: أفتح وضع ما معك في الدهليز وأدخل، فدخلت وحدثته بما صنعت فقال: الحمد لله على ذلك. فقلت: إني هيأت للبيت شيئاً وقد أكلوا وأكلت ومعي رقاقتان فيهما حلوى.
قال: يا أبا نصر! لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة! أذهب كله أنت وعيالك.
قال أحمد بن مسكين: وكنت من الجوع بحيث لو أصبت رغيفاً لحسبته مائدة أنزلت من السماء، ولكن كلمة الشيخ عن السمكة أشبعتني بمعانيها شبعاً ليس من هذه الدنيا كأنما طعمت منها ثمرة من ثمار الجنة. وطفقت أرددها لنفسي وأتأمل ما تفتق الشهوات على الناس، فأيقنت أن البلاء إنما يصيبنا من أننا نفسر الدنيا على طولها وعرضها بكلمات معدودة، فإذا أستقر في أنفسنا لفظ من ألفاظ هذه الشهوات، استقرت به في النفس كل معانيه من المعاصي والذنوب، وأخذت شياطين هذه المعاني تحوم على قلوبنا فنُصبح مُهيَّئين لهذه