الشياطين عاملين لها ثم عاملين معها، فتدخلنا مداخل السوء في هذه الحياة وتقحمنا في الورطة بعد الورطة وفي الهلكة بعد الهلكة. وما هذه الشياطين إلا كالذباب والبعوض والهوام، لا تحوم إلا على رائحة تجذبها فإن لم تجد في النفس ما تجتمع عليه تفرقت ولم تجتمع، وإذا ألمَّت الواحدة منها بعد الواحدة لم نثبت. فلو أننا طردنا من أنفسنا الكلمات التي أفسدت علينا رؤية الدنيا كما خلقت، لكان للدنيا في أنفسنا شكل آخر أحسن وأجمل من شكلها، ولكانت لنا أعمال أخرى أحسن وأطهر من أعمالنا.
فالشيخ لم يكن في نفسه معنى لكلمة (التلذذ)، وبطرده من نفسه هذا اللفظ الواحد، طرد معاني الشر كلها وصلح له دينه وخلصت نفسه للخير ومعاني الخير. ولو أن رجلاً وضع في نفسه امرأة يعشقها لصارت الدنيا كلها في نفسه كالمخدع ما فيه إلا المرأة وحدها بأسبابها إليه وأسبابه إليها.
وقد كنتُ سمعت في درس شيخنا أحمد بن حنبل هذا الحديث: لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات! فما فهمت والله معناه إلا من كلمة الشيخ في السمكة وقد علمنيها هذا الصياد العامي. فالشياطين تنجذب إلى المعاني، والمعاني يوجدها اللفظ المستقر في القلب استقرار فرض أو شهوة أو طمع؛ فإذا خلا القلب من هذه المعاني فقد أمن منازعتها له وشغله إياه فيصبح فوقها لا بينها، ومتى صار القلب فوق الشهوات ولم يجد من ألفاظها ما يعميه ويعترض نظره إلى الحقائق، انكشفت له هذه الحقائق فانكشف له الملكوت. فإذا وقع بعدُ في واحدة من اللذات ولو (كالرقاقتين والحلوى) استملت الأشياء عليه فحجبته، وعاد بينها أو تحتها، وعميَ عمى اللذة، والحجاب على البصر كأنه تعليق العمى على البصر.
وكنت لا أزال أعجب من سير شيخنا أحمد بن حنبل وقد ضرب بين يدي المعتصم بالسياط حتى غُشي عليه فلم يتحول عن رأيه، فعلمت الآن من كلمة السمكة أنه لم يجعل في نفسه للضرب معنى الضرب، ولا عرف للصبر معنى الصبر الآدمي، ولو هو صبر على هذا صبر الإنسان لجزع وتحول، ولو ضُرب ضَرب الإنسان لتألم وتغير، ولكنه وضع في نفسه معنى ثبات السنة وبقاء الدين وأنه هو الأمة كلها لا أحمد بن حنبل، فلو تحول لتحول الناس ولو ابتدع لابتدعوا؛ فكان صبره صبر أمة كاملة لا صبر رجل فرد، وكان يضرب