بالسياط ونفسه فوق معنى الضرب، فلو قرضوه بالمقاريض نشروه بالمناشير لما نالوا منه شيئاً إذ لم يكن جسمه إلا ثوباً عليه، وكان الرجل هو الفكر ليس غير.
هؤلاء قوم لا يرون فضائلهم فضائل ولكنهم يرونها أمانات قد ائتُمِنوا عليها من الله لتبقى بهم معانيها في هذه الدنيا؛ فهم يزرعون في الأمم زرعاً بيد الله ولا يملك الزرع غير طبيعته، وما كان المعتصم وهو يريد شيخنا على غير رأيه وعقيدته إلا كالأحمق يقول لشجرة التفاح: أثمري غير التفاح.
قال أحمد بن مسكين: أخذت الرقاقتين وأنا أقول في نفسي: لعن الله هذه الدنيا! إن من هوانها على الله أن الإنسان فيها يلبس وجهه كما يلبس نعله. فلو أن إنساناً كانت له نظرة ملائكية ثم أعترض الخلق ينظر في وجوههم لرأى عليها وحولاً وأقذاراً كالتي في نعالهم أو أقذر أو أقبح، ولعله كان لا يرى أجمل الوجوه التي تستهيم الناس وتتصبّاها من الرجال والنساء إلا كالأحذية العتيقة. . .
ولكني أحسست أن في هاتين الرقاقتين سر الشيخ ورأيتهما في يدي كالوثيقتين بخير كثير، فقلت على بركة الله ومضيت إلى داري؛ فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي فنظرت إلى المنديل وقالت: يا سيدي هذا طفل يتيم جائع ولا صبر له على الجوع فأطعمه شيئاً يرحمك الله، ونظر إلي الطفل نظرة لا أنساها حسبت فيها خشوع ألف عابد يعبدون الله تعالى منقطعين عن الدنيا، بل ما أظن ألف عابد يستطيعون أن يُروا الناس نظرة واحدة كالتي تكون في عين صبي يتيم جائع يسأل الرحمة. إن شدة الهم لتجعل وجوه الأطفال كوجوه القديسين في عين من يراها من الآباء والأمهات، لعجز هؤلاء الصغار عن الشر الآدمي وانقطاعهم إلا من الله والقلب الإنساني، فيظهر وجه أحدهم وكأنه يصرخ بمعانيه يقول: يا رباه يا رباه!
قال أحمد بن مسكين: وخيل إلي حينئذ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبع هذا الطفل وأمه، والناس عمي لا يبصرونها، وكأنهم يمرون بها في هذا الموطن مرور الحمير بقصر الملك، لو سئلت فضلت عليه الإسطبل الذي هي فيه. . .
وذكرت امرأتي وأبنها وهما جائعان مذ أمس، غير أني لم أجد لهما في قلبي معنى الزوجة والولد؛ بل معنى هذه المرأة المحتاجة وطفلها، فأسقطتهما عن قلبي ودفعت ما في يدي