أوسع من لغة العامة نطاقاً وأبعد آفاقاً، وأقدر على إحكام النظرة وتحديد الفكرة، وهذه أوصافها في جملتها لا في تفصيلها.
أما العامة فهي من عدا الخاصة، من عمال وصناع وزراع وتجار ومحترفين حرفاً لا تنزع إلى إنتاج فكري أو أدبي. بل هي حرف آلية تجري على سَنن من التقليد.
وللعامة كذلك أساليبها وطرق أدائها للمعاني، بل ولها مفرداتها ومصطلحاتها. غير أن لفّها هذه أضيق أفقاً من لغة الخاصة، وأضعف منها قدرة - في جملتها - على التعبير عن رقيق المعاني وعميق الأفكار. ولا تخلو من كلمة جامعة، وحكمة بارعة، ومثل مضروب، وقوله مأثورة، وطرفة نادرة. ونستطيع أن نحدد (لغة العامة) بأنها اللغة الشعبية الدائرة على الألسن، التي ابتذلت عباراتها ومفرداتها - في نظر الخواص - بكثرة الاستعمال.
وفي الأوساط العربية، كانت لغة الخاصة ولغة العامة فصحتين معبرتين، قبل أن تنحرف العربية في التخاطب وقبل أن تتولد العامية. فلما انحرف لسان التخاطب - كما ذكرنا - وتولدت العامية. زادت الفرقة بين لغة الخاصة ولغة العامة. وزادت الألفة بين العامة والأساليب العامية.
والآن نرى أن لغة العامة تطفي عليها الأساليب العامية والمفردات العامية، المشوهة بالتحرف واللحن وترك الإعراب وبالدخيل، ونحو ذلك. غير أنها في جوهرها عربية. وفي جعبتها كما أشرنا - كثير من الأمثال والحكم والكلمات الجامعة والعبارات الرائعة والتشبيهات السائغة والكنايات اللطيفة ونحو ذلك.
والخاصة لا تقيم دائماً على لغتها بل كثيراً ما تصطنع لغة العامة في حديثها كلما عاشت كما يعيش سائر الناس وكلما استراحت من أداء رسالتها في علم أو أدب.
وإزاء هذا يحرص العلماء والأدباء حينما يتصدون للتأليف والنظم، على أن يهجروا لغة العامة، ويتناسوا مبتذلاتها، ليسلم للغتهم رونقها وبهاؤها، ويبقى لها سموها ومقدرتها وجلالها. غير أنهم - وهم من الشعب وإلى الشعب - لا يستطيعون مهما حرصوا، أن يزيحوا عن كاهلهم نِيرها جملة. بل تبقى منها في لسانهم لوثة، تترد نفثاتها بين الآن والآن، بوعي أو بغير وعي.
هكذا كان حال شعراء العصر المملوكي حينما يتصدون لنظم الشعر. كانت أساليب العامة