منذ سنوات على ساحل برقة، تحاول أن تبسط سلطانها على الجنوب كما بسطته على الشمال لتعيد مملكة الرومان في جوف الصحراء وتنشىّ لها عرشها من جريد النخل في ظلال أغصان الزيتون. . .
واصطرعت قوتان، أما إحداهما فكانت تملك الحديد والنار وفي يدها السيف والذهب، وأما الأخرى فكانت تملك الإيمان بالله، والإيمان بالوطن. . . وترامى الفريقان بنبالهما، وسال الدم، وعقد الدخان ضبابة سوداء فوق رءوس العسكرين، ودارت رحى المنون!
وانتبه الفتى والفتاة من سكرتهما وحيدين قد فقدت أباها وفقد أباه وعمه؛ فأقسم من يومئذ قسمه وأبرم عزمه. . .
. . . وخلف الفتاة في الحي تنتظر مآبه!
لم تهدأ ثائرة البادية حين خيل للفتاح المغير أنْ قد غَلب وتسلط، ولكن جمرات تحت الضلوع تبص بصيصها ثم تختفي، ولا تخبو
وقاد (راجح) فرقته الصغيرة فمضى بها حتى أوى إلى غار في طريق الرائد والسابل والقافل، يتربص على حذر ورقبة؛ فما يمر به وليٌّ ولا عدوٌّ إلا عرَّفه نفسه وحيَّره بين عاقبتيْه. . .
وشَرِىَ أمرُ الفتى وعزّ جنده، ووفدت إليه الوفود من أبنا البدو وأفلاذ الصحراء مذعنة لأمره مطيعة، وعقدوا له اللواء؛ وحار العدو حيرته فما عرف سبيلاً إليه ولا منجاة منه، وإن له العدد والقوة والعتاد!
وترامت أخبار الفتى إلى فتاته، فرفعت عينيها إلى السماء تدعو الله مشفقة راجية!
وبّث العدوّ سراياه بين الكهوف والوديان يطلب أثره ويلتمس غِرّته، وراحت الدبابات تطأ الأخبية وتجوس خلال الديار، وحلقت الطيارات تقذف اللهب وترمي بالصواعق، ومضت الكتائب المكتَّبة تحاصر القرى وتقطع الطريق؛ وانكشف المخبأ، ونشبت المعركة في ضوء الصبح؛ وكان ما لابد أن يكون، وأمعن العدوّ قتلاً ومُثله حتى بلغ مبلغه؛ وتبدد الجيش الصغير الباسل وتقسمته بطونُ الأرض أشلاءَ وجماجم. . .
وحلقت طيارات الجيش الظافر ترسل تحيتها إلى القرى المغلوبة قذائف من جماجم بنيها الشهداء؛ وليس الحدادَ شعب بأسره؛ وأحدثت (بدرية) على فتاها كما أحدِّت على أبيها