وفي بيت من الشَّعر إلى جانب الصحراء في غرب الإسكندرية، رأيت بدرية منذ ثلاث سنين. . .
كنت أصطاف يومئذ هناك، وكان بيتها على مقربة، فإنها لتغدو عليّ وتروح كل يوم لحاجتها بين السوق والبيت؟ فأراها. . .
لم أكن أعرف شيئا عن ماضيها، ولم يحدثني أحد بخبرها وإنها لواحدة من كثيرات من الأعراب قد ضربن خيامهن هناك؛ ولكن مرآها كان يثير في نفسي فضولاً عجيباً؛ فما أكاد ألحظها قادمة من بعيد حتى تطيف بي خواطر وأسئلة لا أجد في نفسي جوابها؛ فأتبعها عيني حتى تغيب. . .
كانت بزيَّها، وعينيها، وشفتيها المطبقتين أبداً على ابتسامتها العابسة - تماثلاً صامتاً يرمز إلى أبلغ معاني الوحشة واليأس والحرمان، حتى لا يملك من يراها إلا أن يتخشع ويصمت؛ وكان لها جمال، وفي عينيها وداعة، وعلى جبينها طهر؛ وعلى أنها فيما تبدو لمن يراها جاوزت الأربعين فقد كان لها روح الطفل وخفته
. . . وعرفتُ خبرها من بعد، فأعظمتُ وفاءها، ورثيت لها.
لقد مضت بضع عشر سنة، منذ تلك الليلة التي خلَّفها راجح ومضى لأمره، يحاول أن يثأر لقومه؛ ولكنها ما تزال بعدُ كأنها منه على ميعاد، وكأنما كان ما كان منذ أيام. لم يزدها مرُّ السنين وحادثاتُ الليالي، وفراقُ الوطن، إلا وفاءً لذكراه
وجَلَتْ عن أرضها مكرهة فيمن جلا من عمومتها وبني أبيها، ولكن قلبها بقي هناك، حيث وقفت لآخر مرة تُتبعه عينيها وهو ماض لأمره تلفُّه ريح الصحراء في الليل القر!
وقنعتْ بذكراه عن الأمل في لقياه منذ جاءها النبأ الفاجع! ونذرت نفسها للوفاء بعهده، فلم تتزوج، ولم تخلع الحداد! ونسيتْ ما كان من ماضيها ومن أيامها، إلا صورته وذكراه! وتأيَّمت العذراء ولما تخلعْ أبراد الشباب!
وكانت بدرية في فراشها حين دوّتْ صفارةُ الإنذار لأول مرة في الإسكندرية، تنذر أهلها ليأخذوا أهبتهم للكفاح؛ وأشرق الصبح وقد هجر المدينةَ نصفُ أهلها فراراً من الموت؛ فحملتْ بدرية متاعها ومضتْ مع الناس تلتمس سبيلاً إلى النجاة!