للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ماثلاً في وجوه اخوتي الأحباء. فودعته بدمعة من العين، وابتسامة على الفم، وإشارة بالكف، ثم سارت بنا السيارة تطوي الأرض وتستقبل الصحراء. . .

ذلك هو الموقف الأول!

أما الموقف الثاني فقد كان على شاطئ دجلة في الهزيع الأول من الليل؛ وكانت محطة بغداد الغربية زاخرة بعشرات من خير شباب بغداد وزهرة فتيانها تركوا دروسهم وامتحانهم القريب وخرجوا من دورهم في هذا الليل ليودعوا صديقاً احبهم وأحبوه، واخلصوا له الحب واخلص لهم. . . ذلك الصديق هو أنا، وأولئك هم تلاميذي بل اخوتي، جاءوا يودعونني لا قياماً بواجب رسمي، ولا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب، ولكن وفاء وحباً. والحب اجمل ما في الوجود؛ والوفاء اقدس ما فيه بعد الإيمان. . . وكنت مستنداً إلى نافذة القطار الذي سيحملني إلى البصرة، أصغي إلى خطبهم وأشعارهم التي صبوا فيها عواطفهم، وكتبوها بمداد قلوبهم، أتأمل فلا أرى (والله) إلا بردى ودمشق واخوتي

وغبت عني في شبه ذهول، فما انتبهت إلا وأنا وحيد في القطار، أضم إلى قلبي هذه الهدية التي قدمها إلي تلاميذي. وأطللت من النافذة فلم أجد إلا الظلام. . .

لما دخلت عليهم الصف أول مرة كنت مشتاقاً إلى بلدي كارهاً لغربتي متألماً ملتاعاً، فلم أر في الصف إلا عيوناً جامدة وقلوباً معرضة وأفواهاً مغلقة، وكانوا عندي من العدم لأنه لم يكن لهم في ذاكرتي وجود. ولكن لم ألبث أن وضعت بين أيديهم قلبي فأحببتهم كما يحب الأخ أخاه، (احبهم في مجموعهم لا احب واحداً منهم. . .) واخلص لهم، واحرص على رضاهم وأحس الفرح يغمر نفسي إذا قدمت لواحد منهم خيراً. أو درأت عنه شراً ويتصدع فؤادي إن وجدت أحدهم متألماً، فلا أني اخفف ألمه. وادفع عنه حزنه؛ وكنت أعيش بهم ولهم ومعهم

ووضعت بين أيديهم رأسي أطلعهم على كل ما اختزنته فيه هذه السنين الطوال. استغل اضعف المناسبات لأطلعهم على جمال الأدب العربي، وعظمة التراث الإسلامي، وقيمة التفكير الحديث، واتجاه النقد الجديد، وأعلمهم الاستقلال الفكري، واحفزهم إلى المناقشة، ولا استعمل في إقناعهم سلطة المدرس لان ذلك ضعف، ولكن استعمل قوة المحق ولسن الجدل النظار. واعترف لهم بالحق إذا ظهر على لسانهم؛ واقر باني لا ادري ما لا أكون

<<  <  ج:
ص:  >  >>