أدريه. . . وابعث في ملكاتهم المهملة، وأشجعهم على الإنتاج والنشر. . .
وكان زملاؤنا المدرسين يحذرونني عواقب هذه الطريقة لان الطلاب (في رأيهم) لا يقدرون قيمة الحرية واللطف، ويحسونها عجزاً وضعفاً ويتخذونها سبيلاً إلى الشغب ولكني وجدتهم يقدرون قيمتها، ويحترمون المدرس العادل العالم اللطيف، أكثر مما يحترمون المدرس الجبار العنيف، ووجدت هذه الطريقة قد أجدت جدى كبيراً، فاقبل الطلاب على الأدب وقد كانوا عنه منصرفين، وصار احب الدروس إليهم وقد كانوا يكرهونه، ونشأ فيهم كتاب وشعراء ونقاد يؤمل منهم بعث الحياة الأدبية في العراق في بضع سنين. . .
وضعت بين أيديهم رأسي وقلبي، فلما أثمر الثمرة ولما تحركت هذه العيون بالإخلاص، وأقبلت هذه القلوب بالحب وتفتحت هذه الأفواه عن اجمل أحاديث العلم والأدب والود. . . ولما محيت تلك الفروق كلها. وزال التكلف بين المدرس والطلاب، ولم يبق إلا اخوة يعيش الواحد منهم للجميع، ويعمل الجميع للواحد. . . جاء الأمر بنقلي إلى البصرة. . .
وهأنذا الآن في البصرة في هذه الغرفة الصغيرة اذكر مجالسنا على شاطئ دجلة فيخفق قلبي خفقاناً شديداً، وأتمثل أمامي صورة أخي الشاعر وهو ينشدنا أعذب أشعاره التي تشبه في رقتها نسيم الماء الرخي اللين، وفي انسيابها دجلة التي خلع عليها الغروب ثوباً منسوجاً من خيوط النور فيه مائة لون. . . واذكر (ليلة المطر). . . ليلة جلسنا في هذه الحديقة التي تنبسط وراء المطار المدني في بغداد، وأمامنا الفضاء الذي يمتد إلى. . . إلى دمشق، لا يحجبه شئ؛ وكان مصباح المطار الأحمر القوي يريق ضوئه على الحديقة ومن فيها فيجعلها كأنها بقعة من عالم مسحور، لا يشبهه شئ، ولكنه جميل أخاذ يملأ النفس نشوة وسكراً؛ وكانت الطبيعة تبدو أمامنا كأنها لوحة خطتها ريشة ابرع المصورين؛ فهذه الحمرة العجيبة، وزرقة السماء الصافية، وسواد الليل عند الأفق، والنساء بثيابهن الملونة المبرقشة، والنادبون بقمصهم البيض، يمشون على الحشائش. لا يسمع لهم صوت، يتكلمون همساً. . .
وكان النسيم رخياً ناعشاً، تميل منه الأزهار فتفوح من أثوابها رائحة العطر، فتطفو على هذا النسيم والأضواء البعيدة - كأنها تائهة في الظلام فهي ترتجف من الخوف، وقد جمعت الطبيعة في تلك الليلة سحرها كله: صفاء السماء، وسكون الليل: والربيع الذي زخرف هذه