للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بالذهن إلى العصور التي شهدتها فلم أجد ذلك العصر الذي يؤبنه ويذكر محاسنه؛ فلعله يشير إلى عصر لم أشهده ولم أعرف شيئاً عنه، وذلك أني لم أعد بعد حلقة الخمسين من السن ولا علم لي بما كان قبل ذلك، وأني لم أدرك ما كان حولي إلا نحوا من ثلاثين عاما، وليس في هذا ما يكفي لأن أرد على الأستاذ حكمه، فرجائي إليه أن يحدد ذلك الماضي أين وقع؟ وهل كان منذ ثلاثين عاما أم كان منذ أربعين أو خمسين، فهو أعلم بما يقول مما شهد في حياته المباركة إن شاء الله

على أني إذا كددت الذاكرة في السنوات الثلاثين التي أدركت فيها ما كان حولي لم أذكر إلا محاولة ضئيلة في النقد كان أكثرها من شبان أكبر همهم أن تذكر أسماؤهم إلى جانب الأسماء النابهة في عصرهم - ولقد كانت وسيلتهم دائماً أن ينالوا من مقام أديب نابه لهجت الألسنة بذكره، لا يقصدون النقد والحق، ولكن يقصدون أن تتحول الأنظار إلى شخوصهم

ولست أذكر فيما أذكر من تلك السنوات أن تعرض نقد تعرضاً يذكر إلا لأمثال شوقي وحافظ - كأنما النقد قد صب صباً في قالب واحد، فهو لا يتسع لغير الشعر وقصائده ودواوينه، وأما ما عدا ذلك فلا أذكر أن قامت معركة على كتاب من الكتب التي نقلها الأستاذ الكبير فتحي زغلول، ولا على كتاب مثل (التربية الاستقلالية)، بل لا أذكر نقداً يذكر قابل به النقاد ترجمة حافظ لجزء من البؤساء، أو قصة (زينب) الهيكلية، أما ما ألفه المنفلوطي، أو الأستاذ فريد وجدي

وإني كلما أدرت الفكر في ذلك العصر الماضي لم أجد إلا محاولات بسيطة تشبه محاولات الطفولة في النقد - وقد صدق الأستاذ هيكل في تصوير ذلك إذ قال إن النقد أول ما يعانيه الأديب الناشئ من المحاولات

فإن كان لنا من تعرض إلى ذلك الأمر فإنا نحمد الله إذ انقضى ذلك العصر بما كان فيه

فهل في شرعة الأنصاف أن يتوفر مؤلف على كتاب لا يزال دائباً على البحث من أجله، ويقضي النهار والليل في التحقيق والتثبت ليخرج به على الناس فيجلو لهم أموراً كانت من قبل مظلمة، ويبين لهم مواطن كانت مبهمة غامضة، فإذا به يرى ناشئاً من الشباب يريد أن يحول الأنظار إليه فيتناول ذلك الكتاب المسكين بالنقد ولا يزال به حكا وتجريحاً بيد ثقيلة غير صناع حتى يدميه ويلهبه؟ إن هذا إذن لشبيه باليتيم المسكين الذي يذهب إلى الحلاق

<<  <  ج:
ص:  >  >>