ثم ينصرفون عنه. هذا شأنهم في أوربا اليوم. وذلك كان شأنهم في غير أوربا من قبل. وهذا شأنهم لأنهم يقرءون يومئذ وهم شبان ليستزيدوا من العلم، وهم ينقدون ليمحصوا هذا العلم، وهم يفتنون في النقد ليكونوا لأنفسهم ملكة التقدير. لعلهم لا يفعلون ذلك متعمدين. لكن ذلك هو الواقع في أمرهم؛ فشأنهم في ذلك شأن الشجر، وشأن كل كائن حي أول نشأته، هو يمتص من الغذاء كل ما حصل عليه أو اتصل به، وهو يصفي هذا الغذاء ويتمثله لينمو بالبقية الصالحة منه للنمو، وهو يفرز ما ينقده ولا يسيغه؛ فإذا بلغ حد النمو قل ما يتناوله من الغذاء، ودقق في اختيار هذا الغذاء القليل الذي يتناوله، لأنه يكون في شغل عن النقد والتمحيص والإفراز بالإثمار والإنتاج، وإن استنفد بأثماره وإنتاجه قوته حتى ينتهي من ذلك إلى استنفاد حياته
فالنقد الذي يبدأ به الناشئون من الكتاب والأدباء حياتهم هو هذا التمثل للغذاء الذي يتناولونه، وهم يعرضون هذا النقد على الجمهور ليسمعوا حكم الجمهور على نقدهم، وليطمئنوا إلى أنهم أحسنوا التمثل. والجمهور يطرب لما يراه من آثارهم طربه لترعرع الناشئ وفتوة شبابه. فإذا انقضت هذه الفترة من الحياة مال الكاتب أو الأديب مع سجيته، واختار الطريق الإيجابي الذي يسلكه في إنتاجه. وقد يتفق هذا الطريق وماضي حياته الأدبية، وقد يكون اتجاهاً جديداً في هذه الحياة يحسبه بعضهم منقضاً لها بينما هو أثر محتوم من آثارها، لم يكن لصاحبه مفر من الاتجاه فيه ما دام سليم المنطق حسن التقدير
صحيح أن من الكتاب من يجعل النقد رسالته الأدبية طيلة حياته، وقد تتصل سائر آثاره بالنقد ولو بمقدار. ولقد كان من هؤلاء في فرنسا عدد غير قليل أمثال سانت بيف وجول لمتر. لكن هؤلاء إنما جعلوا النقد رسالتهم في الأدب غير مكتفين بما يظهر من الكتب في عصرهم. وهم قد جعلوا النقد رسالتهم على أنه لون من ألوان التصوير لتاريخ الحياة الأدبية في عصرهم وفيما سبقهم من العصور. فهم في عصر النضوج أدنى إلى المؤرخين منهم إلى النقاد. وما كتبه سانت بيف عن القرن السابع عشر وعن (بور رويال) لا يطلق عليه عنوان النقد بمعنى النقد المعروف للآثار الفنية بمقدار ما هو تحليل تاريخي دقيق لصورة من صور الأدب وأسباب نشوئها، وما تأثرت به في نموها وحياتها. ولهذا السبب تختلف آثار هؤلاء النقاد في أيام النضوج عنها في أيام النمو ونشاط تمثل الحياة. نقدهم أيام