النضوج أثر كامل لحياتهم ونضوجهم. أما نقدهم حين النمو ونشاط التمثل فشأنه شأن النقد حين يتناوله غيرهم من الشبان؛ هو تناول لمواد الحياة العقلية والأدبية وهضم وتمحيص إياها، وتمثل للصالح منها، وإفراز لزيفها
وكلنا يعرف طائفة من كبار الكتاب في فرنسا وفي غير فرنسا بدءوا حياتهم بالنقد، ثم انصرفوا عنه لغيره من ألوان الأدب. ويكفي أن يذكر الإنسان أناتول فرانس وبول بورجيه وهما من أعلام أدبها القصصي في القرنين التاسع عشر والعشرين ليقدر أن الكاتب كثيراً ما ينصرف بعد فترة من حياته إلى ما يحسبه رسالته الصحيحة في الحياة بعد أن يكون قد استقى بالنقد من رحيق الحياة صنوفاً وألواناً. وهؤلاء قد حمد الناس لهم ما اختصوا بالكتابة فيه، ولم يطالبهم أحد بالعودة إلى ميدان النقد. ولو أنهم عادوا إلى هذا الميدان لعادوا مؤرخين ولم يعودوا نقادا على طريقة الشبان الناشئين.
لهبوليت تين الفيلسوف الفرنسي الكبير في القرن الماضي ثلاثة مجلدات في النقد والأدب، تناول فيها طائفة من معاصريه من الفلاسفة والكتاب تناولاً دقيقاً غاية الدقة، بديعاً غاية الإبداع. وهي مع ذلك ثمرات شبابه، فلما تقدمت به السن شغل بكتابة تاريخ فرنسا وبوضع كتب في الفلسفة والأدب ككتابه عن الذكاء، وكتابه عن تاريخ الأدب الإنجليزي. ولقد وضع كتاباً فريداً جعل عنوانه (مذكرات عن باريس) هو آية في التهكم اللاذع بحياة عصره، والنقد لطرائق أهل فرنسا في مختلف ألوان حياتهم. وكم تمنى كتاب أن لو سلك تين هذا المسلك ووضع على هذا النحو كثيرا من الكتب. لكن أحدا لم يوجه أليه اللوم لأنه آثر الفلسفة أو التاريخ، علماً من هؤلاء الكتاب بأن الفلسفة وبأن التاريخ هما جوهر الرسالة التي هيأ القدر ذهن هبوليت تين لأدائها في الحياة
ماذا بعد هذه المقدمات؟. . . نتيجتها الطبيعية أنه إذا وجب أن يوجه اللوم عن فتور النقد في هذه الآونة من حياتنا العقلية والأدبية، فإنما يوجه إلى شباب هذا العصر الذين لا يجدون من أنفسهم إقداماً على تمثل الآثار الأدبية وتمحيصها بنقدها، وإشراك الجمهور بذلك في الحياة الأدبية، وحمل الشيوخ الذين ينتجون على تحري الغاية من الاجادة؛ ثقة منهم بذوق الشباب، وحرصاً منهم على تقديم الغذاء الصالح لجمهور القراء. أما والشباب لا ينقد فمعنى هذا أنه لا يقرأ، وأنه إذا قرأ لا يمحص، وأنه إذا محص لا يثور فينقد. وقيمة الحياة