للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فهامت على وجهها تلتمس المأوى الذي يرد عنها غائلة الجوع ويدفع مرارة الحرمان. ولكن الأمر ينتهي بها إلى أن تقع في يد من يذيقها ذل الأسر ووطأة الرق وحرقة الهوان!

وهناك، في ذلك السجن الذي لقيت بين جدرانه ألواناً من الظلم وفنوناً من الظلام، رفت روحها في سماء الحبيب أول رفة، وهمس صوتها أول همسة، وانطلقت من بين الجوانح أول مناجاة (إلهي! أنا غريبة يتيمة، أرسف في قيود الرق، ولكن غمي الكبير هو أن أعرف: أراض أنت عنيأم غير راض)؟!. . .

ويجيبها صوت لا تعرف مصدره، ولكن فيه الأمن للخائف والأمل لليائس والعدل للمظلوم: (لا تحزني! ففي يوم الحساب يتطلع المقربون في السماء إليك ويحسدونك على ما ستكونين فيه)!

وامتد أول خيط تعلقت به رابعة لتصعد إلى السماء متكئة على يد الله!!

وكانت لحظة من لحظات الانقلاب في حياة تلك الصوفية المؤمنة، ابتدأت بالصوم والتهجد وقيام الليل، وانتهت بالتحرر من هذا الرق الذي عصف بكل بقية من أمل لولا رعاية السماء. . لقد رآها سيدها ذات ليلة ساجدة تصلي واستمع إليها مبتهلة تقول: (إلهي! أنت تعلم أن قلبي يتمنى طاعتك، ونور عيني في خدمة عتبتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن خدمتك، ولكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبدتك)! وانبثق في هذه المرة ضوء كما انطلق في المرة السابقة صوت، وكلاهما لا تعرف مصدره ولكن فيه الأمن للخائف والأمل لليائس والعدل للمظلوم. . . وإذا بسيدها مرتاع النفس ملتاع الضمير، يقضي الليل كله مؤرق الجفن مضطرب المضجع يريد أن ينتهي في أمرها إلى قرار. فإذا كان النهار مضى إليها يقول: (أي رابعة! لقد وهبتك الحرية، فإن شئت بقيت هنا ونحن جميعاً في خدمتك، وإن شئت رحلت أنى رغبت)!. . . وانطلقت رابعة إلى هناك، إلى حيث تقطف من رياض الحرية كل زهرة، وتعب من ينابيعها كل قطرة، وتستروح من أنسامها كل رخي طيب.

ولا ندري لم تخلت عنها يد الله فنسيت رسالة الأيمان لتتبع خطوات الشيطان؟ ولكنها لم تتخل عنها إلا إلى حين، لتعود بعد ذلك أكثر ما تكون تعلقاً به وحنيناً إليه وتهالكاً عليه. . . لقد اتخذت رابعة من مهنة العزف والغناء وسيلة لكسب العيش والسعي وراء الرزق، وهي

<<  <  ج:
ص:  >  >>