الآكال وأعذب الأشربة؛ ثم تنتشر على بدني حرارة العافية فأرى الجمال في كل منظر، والنعيم في كل شيء، واللذة في كل عمل؛ وأُدرك بمشاعري السليمة القوية ما انبثَّ في عالم الحس من كل متاع؛ ويخيل إليَّ من فرط الشعور وفيض السرور أن الهواء الذي أنشقه هو مددٌ من الروح الخالق يبعث في جسمي النشاط وفي نفسي الغبطة.
أؤكد لك يا سيدي أن الغنيّ يجوع مثل جوعي، ولكنه لا يسبع مثل شبعي. أنا إن أصبت شِبْع بطني بأي لون من ألوان الطعام بدا عليَّ من دلائل الراحة والسعادة ما وصفته لك. أما الغني فإنه إذا جرؤ على معدته المترفة بالشبع قضى وقت هضمه العِسر الطويل وهو فاقد الشعور بالدنيا لشدة ما يلقي من حزَّة الحموضة وثقل الطعام وضيق النفس وضربات القلب. وهو في الكثير الغالب ممعود أو مفؤود أو مكبود أو ممروْر أو مصاب بالملح أو بالسكر، فلا بد له من الجرعات المختلفة التي تنيم الألم أو تكافح الداء أو تؤخر الخطر. وقد ينتهي به الأمر في الزمن القريب أو البعيد إلى الإمساك عن الطعام إلا ما يمسك الرمق.
كان لي عند الباشا ثمن أربعين مقطفاً ضفرتها لدائرته، فلما جئته اقتضيه الثمن أكبره وأنكره وتهدم عليَّ بالكلام العنيف وقال محتجاً لسبابه واغتصابه:(إن ضفر الخوص عمل العاجز، وإن رجلاً في مثل صحتك وقوتك لا يجدر بيديه غير الفأس والكُريك) فقلت له في مثل هذا الهدوء الذي أحدثك به: (يا باشا إن نصيحتك إياي على نفاستها وقداستها لا تبرر أكلك لحقي. ومن اليسير عليَّ أن أنزل لك عن هذه القروش ثم لا أنقص شيئاً؛ ولكنك قد تزيد شيئاً؛ وكلما زاد مالك ساء حالك. إنك قد بلغت أرذل الغنى، ثم انحدرت إلى أسفل الفقر؛ فأنا وأنت يا باشا سواء: أنا فقير لأني مصابٌ في جيبي، وأنت فقير لأنك مصاب في معدتك؛ فأنا أشتهي ولا أجد، وأنت تجد ولا تشتهي؛ ولكن حرماني مؤقت وحرمانك مؤبد، ونقصي يسده الرضا ونقصك يزيده السخط، وجيبي المفتوق يرتقه الرَّفاء بقرش، ومعدتك البالية لا يجددها الطبيب بمليون)
وكنت لا أزال أرسل الكلام على هِينَة وحذر مخافة أن ينفجر في وجهي على عادته مع الناس؛ ولكن المعجزة التي ظهرت على يده أو على يدي - لا أدري - هي أن الرجل استرخى وتليَّن وبدا على وجهه الأبكم سمات التفكير لأول مرة. ثم قال في لهجة لا تزال