وصاحبه التوفيق في مدرسة موناستير كما صاحبه من قبل في مدرسة سالونيكا، وكتب أساتذته عنه انه (شاب متقد الذكاء عسير النفس تستحيل مخالطته) وبعد أن أتم دراسته أرسل إلى المدرسة الحربية بالأستانة برتبة ملازم ثان، وهناك انغمس في حياة الإثم والفجور من لعب القمار ومخالطة النساء، ولم يعرف عنه انه احب إحداهن ذلك الحب الأفلاطوني النبيل، بل كان يقبل عليهن إقبال النحل على الزهرة يمتص رحيقها ويتركها ذاوية ذابلة، وقد انصرف فجأة عن هذه الحياة واقبل على عمله بجد ونشاط، ووفق فيه توفيقا بالغا يعزى قبل كل شي إلى تعويله على نفسه واعتماده على مجهوده، وقد جاز كل امتحاناته بتفوق باهر، ورقي إلى رتبة كبتن سنة ١٩٠٥، وكان يمزج السياسة بعمله دائما، وقد ألفى نفسه في الاستانه بين ضباط صغار يقاربونه في السن ويضطرمون بالثورة على استبداد الخليفة وتدخل الدول الأجنبية. وكان أساتذتهم بالمدرسة يعطفون عليهم ويتغاضون عما يفعلون، ولكن لا يجرؤون على قيادتهم ومظاهرتهم.
وكان لهؤلاء الضباط بالمدرسة جمعية تدعى جمعية الوطن تلقي الخطب وتذيع النشرات مهاجمه فيها نظام الحكم وأخلاق الموظفين واستبداد الخليفة ورياء رجال الدين، بل لم يخل الدين نفسه من مطاعنها لحيلولته - كما كانوا يعتقدون - دون التقدم والارتقاء، فضلا عن فساد النظم المؤسسة عليه، وقد تعاهد أعضاؤها على تقويض حكومة الخليفة واستبدالها بحكومة دستورية، وإنقاذ الناس من كابوس رجال الدين، وتحرير المرأة من عبوديتها. والواقع أن تركيا في ذلك الحين كانت تحتضر، وما كانت الحياة لتعود إليها إلا إذا لقحت بدم نقي جديد، وقد انخرط الشاب مصطفى في سلك أعضائها، واخذ يكتب في نشرتها مقالات نارية وشعرا ملتهبا، ويلقى في اجتماعاتها خطبا لاذعة، ولكن السلطان عبد الحميد لم تكن لتخفى عليه خافيه، فعلم بأمر الجمعية من جواسيسه المنبثين في كل مكان، وجزع جزعا شديدا إذا رأى فيها نواة عمل سينتهي بثل عرشه. فخاطب أحد أعوانه المدعو إسماعيل حقي، وتحدث هذا بشأنها إلى ناظر المدرسة الحربية بالاستانة، فحرم الناظر عقد اجتماعاتها، ولكن لم يفت هذا في عضد أعضائها الثائرين، فاخذوا يعقدون اجتماعاتها في الخارج، وأضحت إحدى تلك الجمعيات السرية المنتشرة في الأستانة تعمل على هدم الظلم ومحو آثاره.