وبعد أن جاز مصطفى الامتحان بمدرسة الأستانة أستأجر غرفة لتكون مكتبا للجمعية تطبع فيه نشراتها، وكان الأعضاء يجتمعون في منازل خاصة يأتون إليها خفية يترقبون، وقد ارتاح بطلنا إلى هذه الحياة لتأصل حب المغامرة في نفسه واستقراره في طبعه، واخذ يتعلم أساليب الجمعيات الثورية ونظمها، ولكن عيون عبد الحميد لم تال جهدا في مراقبة هذه الجمعية وتضييق الخناق عليها ليفاجئوا الأعضاء متلبسين بالجريمة، ولم يكن هذا بالعسير عليهم، إذ كان الأعضاء ينقصهم الدراية بأساليب هذه الجمعيات، وان لم تعوزهم الحماسة والشجاعة.
واستطاع أحد الجواسيس أن يتسلل إلى الجمعية ويتصل بها، وازدادت على توالي الأيام ثقة الأعضاء به واعتمادهم عليه، فتمت خديعته لهم وجازت حيلته عليهم؛ وبينما هميقسمون قسم الجمعية في يوم من الأيام إذا برجال البوليس السري يفاجئونهم ويقبضون عليهم، فزج مصطفى وسائر الأعضاء في السجن الأحمر بالاستانة، وكان بطلنا من بينهم مثار الريب والمخاوف، واعتبر في عداد الخطرين على النظم القائمة، فعزل عن زملائه في مكان قصي، وتراءى له المستقبل مظلما قاتما، إذ لو بدا لعبد الحميد انه نظير خطر عليه لاختفى من الحياة كما اختفى أمثاله من قبل كوميض البرق.
وقد راع الأم الحنون مصير ابنها، فأسرعت يحدوها الأمل والخوف لزيارته، فأبوا عليها ذلك ولم يسمحوا لها إلا بإرسال بعض النقود إليه، ومضت على حاله هذه أسابيع نقل بعدها إلى (زنزانة) ضيقة مظلمة قذرة لا ينفذ إليه فيها إلا قبس ضئيل من النور من كوة صغيرة، فاثر هذا السجن الموحش في نفسه ابلغ تأثير، وزاد خلقه غلظة ووحشية.
وفي يوم من الأيام اقتيد من غير إنذار إلى مكتب رجل من رجال العهد القديم ومن أنصار عبد الحميد المقربين هو إسماعيل حقي باشا، فاخذ الرجل يديم النظر في ملامحه، ثم قال له: (لقد أظهرت مقدرة فائقة وكفاءة ممتازة، وأمامك مستقبل باهر ينتظرك في خدمة صاحب الجلالة، ولكنك من جهة أخرى شنت نفسك ولوثت شرفك الحربي، فخالطت أسوأ الخلان، وأخذتم تقامرون وتشربون وتختلفون إلى الأمكنة الموبوءة، أشنع هذا واشد نكراً انك نكثت عهد الإخلاص لمليكك، فزججت بنفسك في موج السياسة، وظاهرت الدعاية الخائنة ضده، وحرضت زملائك على احتذاء مثالك، والاقتداء بك، ولكن جلالة الخليفة قد