وسعتك رحمته وشملتك رعايته ومغفرته إذ رآك شابا احمق، لعلك قد انقدت لهواك من غير تبصر أو تقدير للعواقب، فاختارك للذهاب مع فرقة الفرسان إلى دمشق، ويتوقف مستقبلك على ما يعلم من مسلكك، ولكن عليك أن نتجنب هذا الحمق وتتوفر على أداء واجباتك الجندية، وخذ لنفسك الحذر فانك لن تحظى بفرصة أخرى)
وفي نفس الليلة رحل في سفينة إلى سوريا بدون أن يسمح له بروية أمه أو أصدقائه، وبلغ بيروت بعد سفر شاق، فامتطى جواده وعبر به جبال لبنان حتى انضم إلى الفرقة في دمشق فوجدها تتأهب للزحف على الدروز المقيمين بجنوب دمشق والذين كانوا دائمي الثورة على الدولة العلمية، وقد كانت هذه الغزوة أول تجربة لنشاطه ولكنها لم تكن ترضى الجندي النظاميإذ كانت بلاد الدروز عبارة عن جبال مجدبة تتقاطع مع وديان ضيقة عميقة لا ماء فيها ولا طريق معبد، وكان الدروز قوما أقوياء الشكيمة صعاب المراس دارسين كل شبر من ارضهم، ومضت الأيام بين الفريقين في كفاح غير مثمر، إذ لم يستطع الأتراك الظفر بأعدائهم، فاحرقوا قراهم ودمروا حقولهم وعادوا القهقرى إلى دمشق لهجوم فصل الشتاء ببرده القارس وجوه المكفهر المظلم، وهناك اخذ بطلنا الثائر يعد العدة لإنشاء فرع لجمعية الوطن، ولم تغير الأيام السود التي قضاها في سجن الأستانة منه شيئا، ولم تضعف نفسه القوية، ولم تلن قناته الصلبة، ولم ترد قلبه الكبير عن غرضه، إذ كان مصطفى ثائرا على كل شيء: على الدين والناس والنظم والتقاليد، ولم يكن لشيء ما في نفسه حرمة أو قداسة، ولكنه كان يجمع إلى حماسة الشباب حذر الشيوخ ونظرهم البعيد، وكان قد هجر الأدب لما وجده مدعاة للشك، مجلبة للتردد موجبا للخطأ لما بين الحكمة النظرية والحكمة العملية من تناقض، واقبل على درس أساليب الثورة ووسائلها، وقد وجد التربة صالحة للبذر. فصغار الضباط مضطرمون بالسخط، ورؤساؤهم يعطفون عليهم ويميلون إليهم، وقد وجد مصطفى من بينهم زميلاً قديما له، فاتخذ منه نصيرا ومعيناً له في عمله، وسرعان ما اشتد ساعد الجمعية وتكاثر عدد أعضائها، واخذ بطلنا يشعر بمكانته وخطره، ولكن سرعان ما فطن إلى خطئه وعاد إلى صوابه، فعلم أن أهل البلاد ليسوا متهيئين لقبول دعوته، وان كان ضباط الحامية التركية متأهبين لتلبيتها وإبرازها إلى حيز العمل.
وقد أرسل إليه أصدقاؤه يخبرونه بان البلقان هي مهد الفتن والقلاقل، وان عليه أن يسعى