للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لنقله إلى سالونيك ليضمن نجاح حركته وانتشار دعوته، فاعتزم تنفيذ ما أشاروا به عليه، سواء أجابته الحكومة إلى طلبه أم أبته عليه، وكان صاحب شرطة يافا عضواً بجمعية الوطن، فاتفق معه على كتمان وجهته، وحصل على الجازة بضعة أيام رحل خلالها إلى يافا وأبدل اسمه واتخذ له لباساً مستعاراً، فاستطاع أن يعبر البحر منها إلى أثينا، ثم إلى سالونيك حيث ألفى السخط والقلق يساوران كل النفوس، وهناك اعتكف في منزل أمه، ووجد أن الجو صالحاً لإبلاغ رسالته، إذ كانت سالونيك قلب الحركة ومهد الثورة، فاخذ يتعرف بمعونة أمه وأخته إلى صغار الضباط من زملائه القدماء، وطلب نقله إلى سالونيك ليتسنى له الإشراف على تنفيذ خطته، ولكنه قبل أن يخطو خطوة أخرى صدرت من الأستانة الأوامر بالقبض عليه فعمل حكمدار سالونيك على خلاصه، فنبهه إلى الخطر المحدق به واخبره أن أمر القبض سينفذ بعد يومين، وعليه أن يتأهب للرحيل، فعاد مصطفى بطريق البحر إلى يافا وكانت أوامر القبض عليه قد سبقته اليها، ولكن لحسن طالعه قيض الله له كبير الشرطة في يافا، وكان عضوا بجمعية الوطن، مهد له سبيل الفرار إلى غزة، وأراد أن يحكم الحيلة لتجوز على حكومة الأستانة، فكتب إليها يطلب أن تزوده بتعليمات أوضح وأدق عن مصطفى كمال، ويقول إن ما وصل إليه منها فيه كثير من الخطأ، لان مصطفى كمال كان طوال المدة السابقة مقيما في غزة، ولم يبرحها إلى سالونيك، وصادق على مفيد لطفي الضابط بغزة.

وهنا تظهر حكمة بطلنا ونظره البعيد. فقد رأى انه لو وقع في يد عيون الخليفة مرة اخرى، لما رأى نور الحياة بعد ذلك لحظة واحدة، فاعتزل الحياة العامة زهاء عام، ليزيل ما أحاط به من ريب وشكوك، واقبل على عمله بجد ونشاط، حتى لفت أنظار رؤسائه إليه، فاعجبوا به واثنوا عليه قائلين. انه لا يعنى بغير واجبه، وهو يؤديه على اكمل وجه، وأتم شكل، فأحسنت به حكومة الأستانة الظن، ورجحت أن جواسيس سالونيك قد ظلموه باعتباره في عداد الخطرين، ولكن خيال سالونيك لم يبرح راس بطلنا، وأنى له ذلك وفيها نذير الثورة التي يريد مصطفى أن يكون بطلها الذي يشار إليه بالبنان، وبينما هو غارق في تفكيره وتدبيره إذا به يتسلم أمر النقل إلى سالونيك وهو يكاد أن يكون له من المكذبين.

يتبع

<<  <  ج:
ص:  >  >>