للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بحجارته الصغيرة السوداء، وعيناه تحدقان بالبيوت القاتمة على الجانبين كأنها تنتظره!. . .

وامتلأت خياشيمه برائحة كان ينفر منها أشد النفور، ويضيق بها أعظم الضيق، ومع ذلك فقد كان يلقاها مكرها حين يخرج من بيته، ويمر بها - مسوقا إليه ا - حين يعود إليه. ولكن اليوم يحس إحساسا قويا عنيفا بأنها تعطر نفسه التي أفسدتها الغربة، ودمرها الجفاف!

ما أجمل هذا الطريق! وما أبدع ما سطر من ذكريات في سفر السنين، قليلها حلو سائغ، وسائرها مغرق في المرارة! فهو لا يكاد يذكر أنه قطعه مرة وهو خالي النفس من الألم، صافي الفكر من الهواجس والظنون، فكثيراً ما كانت تمتلئ نفسه بالألم ويحس في الضيق يدب في مفاصله، فيهرع إلىبيته يلوذ به من الهجير ويتقي تحت سقفه لوافح الألم وسموم الهواجس والظنون.

وقطع بعضا من الطريق وهو يتلفت. كل شيء كما خلفه قبل خمسة عشر عاماً كأنما السنون تمر على جوانبه مر النسيم! وتمنى لو يدلف إلىبعض البيوت ليرى سكانها أتغيروا مثلما تغير وعضهم الدهر بناجذيه كما عضه هو؟. . ولا شك أنهم سينكرونه أشد الإنكار لما أصابه من شحوب مخيف، وكبر بالغ، حتى كأنه قطع خمسين حجة، وأفضت به السن إلىكهولة واهية!. فالشيب تسلل إلىشعره كما تتسلل الخيوط البيض من الفجر في لمة الليل الفاحم والسنون اللافحة بسمومها أذوت نظارته، وسيلته المرح، وأهدته كآبة لاذعة، ووجوماً ثقيلا.

ووصل إلىبيته، وأطل على باحتة من العتبة العالية، وألقى نظرة واجمة على الداخل. على الجدران المسودة من لفح الدخان، والأرض المهشمة البلاط، وأبواب الغرف الضيقة المظلمة الأغوار؛ ولمح في تطواف عينيه كتلة بشرية جالسة القرفصاء، ساندة رأسها على ذراعيها المتشابكتين.

وعرفها فتحركت في أرجاء نفسه اللواذع. وجاشت لواعج وجدانه فناداها: - أماه!. . أماه!

فارتفع رأس المرأة فجاءة، ونظرت عينان صغيرتان حائرتان، وأرتجفت شفتان ذابلتان، واختلجت أسارير وجه معروق.

أماه! لفظ جميل سرى في جسدها كالتيار الكهربائي. . لقد أطال عهد سماعها به، فلما

<<  <  ج:
ص:  >  >>