سمعته ترددت في أعماق نفسها أصداء بعيدة، صادرة من ماضي سحيق، واعترتها رعشة. ودار في خلدها أنها تعرف صاحب هذا الصوت.
وتقدم المغترب خطوات ثقالا، فلمحت الأم شبحا يقبل عليها فنظرت بجهد إلىوجهه، فلاح لها من بين أهداب عينها وجه شاحب هزيل. فتمتمت قائلة وهي لا تصدق ما رأت عيناها.
- عبد الرحمن!؟
وألقى الرجل جسمه في أحضان أمه كالطفل الخائف من الأشباح!، وخضلت الدموع الشفاه المحمومة التي طفقت تعبر عن حنانها بالقبل النهمة، وتفصح عن شوقها بالهمهمات.
وأرادت الأم أن تقول ولكن لسانها خانها، فتلجلجت، وتعثرت الألفاظ على شفتيها المرتجفتين، فأمسكت رأس الرجل بيديها، ونظرت في عينه كأنها تريد أن تستنطقها، ولثمتها لثمات حرار وهي تبكي بصوت خافت.
ولم يستطع الرجل من جانبه أيضا أن يعبر عن إحساسه إلىبشيء واحد وهو: أماه. . . أماه. . . بينما ظلت الأم تحت اللفظة السحرية تسكر وتحس نشوة من عبيرها الذاكي. ولكنها لا تملك إلا اللثمات!
وأخيرا نطقت بصوت تترقرق فيه العبرة:
- أحق أن حلمي قد تحقق، وانك رجعت إلىبيتي بعد غياب طويل!؟
ومسدت بيديها شعره، والتهمته بنظراتها وهو صامت بين يديها كالتمثال. . .
قالت والعبرة لا تزال تقطر من ألفاضها:
- لقد عذبني غيابك، وفرى صبري. لقد كنت أشفق عليك من أغوال الغربة، وأخشى عليك انقطاع الأسباب بك. ويئس أهلك منك إلا أنا فقد كنت موقنة أعظم اليقين أنك سوف ترجع إلي يوما ما.
وضمته إلىصدرها كأنها تريد أن تطرد الوساوس التي تنتابها. ثم قالت: - والآن رجعت. واستجاب الله دعائي وصلواتي. فقد كانت نفسي ممتلئة بك، منتظرة إيابك، تترقبه في كل لحظة، وتتعزى بالأمل عن نكد الدنيا وغصص العيش.
وخنقتها العبرة كالكابوس، وتفرست في وجهه الشاحب المقطب المهيمن عليه الحزن والجمود، وتطلعت إلىالجهامة المرتسمة على صفحاته. فأغمض الرجل عينيه واستسلم