للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إلىارتياح جميل!

وجاء أهله باشين متهللين. يا عجبا! كأنه لم يعرفهم. . إن خمسة عشر عاما كفيله بأن تخلق جيلا جديدا، وتباعد بين المقترب وأهله. وتخلق برزخا واسعا بينه وبينهم!

وطوف ببصره في أرجاء المنزل، منزل الذكريات. . يا الله. ما أصلب هذا الحجر، وما أعظم جبروته! إن الكائن الإنساني تهدمه معاول الدهر، وتزعزعه نكبات الأيام؛ أم الجماد فإن الدهر يترقرق من جوانبه كما يترقرق الماء الزلال من صخرة جلمود!

ووقع بصره على غرفته الخاصة فرأى بابها موصدا، ورأته أمه يحدق فيها فقالت:

- إنها كما تركتها؛ لم تطأ عتبتها قدم، ولم تجل في أرجائها عين. فقد كانت تذكرنا بك، وتجعلك حاضرا معنا، شاهدا على ما تلقاه من جراء غيابك. لقد أوصدت بابها في اليوم الذي سافرت فيه، وظللت كلما تقع عيني على بابها المغلق أتذكرك. ويخيل إلي أنك ما زلت فيها، فتلفني الذكرى، وتتحير في عيني الدموع. . .

وجالت في خاطره فكر، ومرت في مخيلته صور وأشباح. ونهض متثاقلا كأنه يحمل على عاتقه خمسة عشر جبلا من الهموم والأحزان؛ ودفع باب غرفته فسمع لها ضريرا أقشعر له بدنه. وخيل إليهأنه يدلف إلىمقبرة! وطوف ببصره في أرجاء الغرفة المعرشة بخيوط العنكبوت، المغبرة من تراب السنين. وجلس على كرسيه المغطى بطبقة سميكة من التراب، وأسند كوعه على المكتب أمامه، وظل يحدق في سقف الغرفة المختفي وراء طبقة من الظلام، وأخرى من نسيج القدم!

وتدفقت عليه سيول من الأفكار كما تتدفق الأنوار على كهف مظلم مهجور!

ورأى نفسه يلقي على عاتقه خمس عشرة سنة من الزمن، وأكثر منها في عمر العاطفة والشعور. وقال في نفسه:

- هنا. . . وقبل خمس عشرة سنة كان يعيش شاب. . . ابتلي بحمى العاطفة!

وارتسمت على فمه ابتسامة باهتة ساخرة. . . كأنه يسخر من ذلك الشاب الثمل من الأشواق!. . وراح يستطلع ما خبأه في كوة الماضي البعيد. . .

إنه ليتذكر الماضي على أحسن صورة. . . كأنما الأشياء كلها وقعت بالأمس. . . يتذكر ذلك الشاب النزق البعيد الآمال، المجنون بحب المستحيل، الساري في دياجي الأحلام، العبد

<<  <  ج:
ص:  >  >>