للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وغير منكور أننا لا نستطيع أن نفكر إلا بالألفاظ وقد يجيء زمان يستغني فيه المرء عن الاستعانة بالألفاظ على التفكير بل أنا أومن بأن هذا الزمان لا محالة آت وأن الإنسان سيستغني عن الكتابة والكلام في نقل ما يدور في نفسه من المعاني والخواطر والآراء والاحساسات إلى آخر ذلك - إلى نفس أخرى، ويكتفي بإرسال موجات يتلقفها غيره ويترجمها كما ترسل محطات الإذاعة موجاتها فتتلقفها آلات الراديو. ولكن إلى أن يجيء ذلك الزمان الذي يتيسر فيه الاتصال اللاسلكي بين نفوس الأفراد لا يسعنا إلا أن نفكر بواسطة اللفظ. فاللغة لا تزال أداة التفكير الذي لا نعرف له سواها؛ فإذا ظلت لغة من اللغات جامدة لا تتغير قوالبها ولا تتجدد ولا يدخل عليها جديد ولا يحدث فيها طريف ولا يؤثر فيها كر العصور ولا يترك فيها مر هذه العصور آثارا من حياتها فإن معنى هذا يكون أن أبناء هذه اللغة يفكرون على نحو ما كان يفكر أبناء زمان متوغل في القدم فهم يعيشون بأجسامهم في عصر ولكنهم بعقولهم يعيشون في عصر مضى وانقضى وانقرض واندثر.

وقد يكون العصر الماضي جميلا ولعل كل ما فيه كان حميدا ولكنه زال وجاء غيره بمظاهر حياة وأساليب تفكير وآمال ومخاوف وآداب وعادات مختلفة، فكيف لا يظهر هذا في لغة الكتابة والكلام؟. . وكيف يعقل أن تظل القوالب لا تتجدد ولا تتغير ولا تطرأ عليها زيادة من العصر الحاضر المؤثر بوجوده؟؟ أيكون ذلك من الكسل؟ أم هو من ضعف التأثر بهذا العصر؟ أم ترى الأحياء فيه جثث محنطة لها وجود ولكن ليس فيها حياة؟

ورأيتني وأنا أفكر في هذا أسأل نفسي سؤالاً لا يخلو من غرابة (أتراني أشبه أبي؟) وضحكت لما قلت ذلك، وقلت بالطبع أشبه أبي!. ما هذه السخافة؟. . وكيف أستطيع أن لا أشبهه؟ على أني لم أكن أعني المشابه العادية التي تكون بين الآباء والبنين فإن معمل الطبيعة لا يدعي ما تدعيه مصانع السيارات من إخراج طراز جديد في كل عام لا شبه له ولا صلة بطراز العام السابق؛ وإنما أعني هل أنا أحور شيئاً فشيئاً حتى أصبح صورة طبق الأصل من هذا الأب الفاضل؟؟ وناديت زوجتي وسألتها (أين صورة الوالد المحترم؟) فقالت: (إيه؟. . الوالد المحترم؟. . أي والد؟).

فقلت وأنا أضحك: (وهل لي غير والد واحد؟. إن كنت تعرفين لي غيره فقولي، ولك الأمان، ورحم الله الوالد والوالدة جميعاً) فقالت: (لا تمزح هذا المزح. . . عيب. . . وإنك

<<  <  ج:
ص:  >  >>