وتكلم الثالث، يرى نفسه من كبار العقلاء، فأنكر القدر، وجحد المقدر. وزعم أن الحياة ليست إلا عجينة في يدك، أنت تديرها وتصورها، فإن صنعت منها تمثال غادة جميلة كان لك جمالها، وإن عملت منها هولة قبيحة كان عليك قبحها. . . إن مرضت فمن إقلالك الغذاء وإهمالك التوقي، وإن دعيت فمن تركك الحذر، وإن افتقرت فمن قعودك عن السعي. . . وأمثال هذا الكلام.
فقلت له: فلم ولد هذا في دار علم وتهذيب فتعلم وعرف سبل الوقاية، وخطر الأمراض، ونشأ ذاك في بيت جهل وفساد، فشب جاهلاً فاسداً، لا يعرف كيف يتقي الداء، ولماذا دعس هذا من قلة حذره، وسلم من هو أقل منه حذراً، وطريقه أشد خطراً، ولماذا يسعى الرجل حتى تنقطع من السعي أنفاسه ويرجع ولم يصل ولا إلى مثل خفي حنين، وتأتي الأموال لآخر بلا سعي ولا طلب؟. . .
ولماذا يتاح لهذا النابغة أن يظهر نبوغه، حتى يكون اسمه تسبيحاً على كل لسان، وعنواناً في كل كتاب، ويجهل من هو أحد منه ذكاء، وأكبر موهبة، وأظهر استعداداً للنبوغ؟.
ولماذا؟ ولماذا؟ وألف لماذا؟ لو شئت لسقتها لك فما استطعت الجواب على واحد منها، فما أنت في الوجود، هل تسير أنت الفلك على هواك، وهل تسوق الكون إلى غايتك. هل أنت إله؟ إنك ما كونت نفسك، ولا شققت بيدك سمعك ولا بصرك.
قال: فهل ترى أنت أن الإنسان مسير؟.
قلت: ما مسير؟ وما مخير؟ وما هذه الفلسفة الفارغة؟ لقد اشتغل بها البشر، من ابتدأوا يفكرون واختلفوا عليها، وتجادلوا، ولا يزالون يختلفون ويتجادلون، ولم يصلوا إلى شئ. وإنما تاهوا في بيداء لا أول لها ولا آخر، وهاموا على وجوههم في مهمه متشابه الأرجاء، بلا أمل ولا رجاء، فذهب هذا ينكر القدر، ويزعم أن الحياة ملك الإنسان، وأحداثها صنع يديه، وراح ذاك ينكر إنسانيته، ويجحد نفسه ويراه مسماراً في آلة الكون، وحجراً في جبل، يدور مع الأرض أنى دارت. وكان هذا متشائماً لا يرى إلا الذي وقع عن الكرسي فمات، فاعتقد أن الدنيا دار المصائب، وكان ذلك مغروراً، لم يبصر إلا التي وقعت من الطبقة السادسة ولم تمت، فحسب أنه يسلم من كل أذى.
ونحن مع القدر بشر، لا آلهة ولا حجر، والدنيا ليست مسرة كلها ولا مصائب ولكنها مسرة