هذه لا ريب صعوبات حقيقية، ولكنني مع ذلك لا أتردد في الدعوة إلى التفكير المذهبي في حياتنا العامة، ومن البين أن البلاد قد أخذت تتهيأ له في كافة نواحي نشاطها سياسية واجتماعية وثقافية. وكل ما تحتاج إليه لتخطو الخطوة الأخيرة هو التوجيه القوي من رجال، وبالأصح شباب ناضج على خلق وكفاية. وأكبر ظني أننا عما قريب سنمل سخائم الأشخاص وتخبط الشهوات وتحلل الأخلاق؛ فترتفع قلوبنا إلى مستوى التفكير المذهبي الذي ندعو إليه
وليس من شك في أن خير المذاهب الإنشائية ما نستمده من رغبات النفوس، فالسياسي الحكيم هو من يتحسس اتجاه مواطنيه، والشعب بغريزة الحياة يلتمس دائماً مخرجا من محنه؛ فما علينا إلا أن نبصره بذلك المخرج جامعين آماله حول فكرة موحدة نستمد منها مبادئ العمل. ولابد لنا من أن نروضه على ما ندعو إليه حتى يستقر بوعيه أن الخير لابد آت مما ارتضاه من نظام، ولنضرب لذلك مثلاً بنظام الحكم في بلادنا: ملك دستوري نرى فيه رمز الوطن وعزته ونضعه جميعاً موضع التقديس، حريصين على أن تظل ذاته بعيدة كل البعد عما نقتتل حوله من مبادئ الحكم ووسائله؛ وحياة نيابية وضعنا أسسها وفقاً لخير الدساتير. وتلك فكرة لاشك أن الأمة مجمعة عليها اليوم. ولكنك لو أنعمت النظر لوجدت أن هذا الإجماع لم يتغلغل بعد في إيمان الشعب ولا استقرت فوائده بنفوسهم ولا أدل على ذلك من انعدام ثقة الأمة بالانتخابات ونتائجها. ولعل في موقف أغلبية الناخبين - وبخاصة المثقفين منهم - من تلك الانتخابات أكبر دليل على صحة ما نقول. فما لقيت أحداً من مستنيري العقلاء إلا أخبرني أنه لم يشترك في الانتخابات طول حياته مرة واحدة، بل ولا يعلم أهو مقيد بجداولها أم لا، وتلك حالة تستحق النظر لأننا نخشى أن تدل على أن النظم قد سبقت إيمان الشعب وعقليته. ومن هنا أما يكون من الواجب أن نأخذ الأفراد بالقسر فنرغمهم على استعمال هذا الحق بل النهوض بهذا الواجب، فنجعل التصويت إجبارياً كما جعلته إسبانياً عندما كانت حديثة العهد بالنظم النيابية، وإلا فما فائدة نظام لا يتمتع بثقة ولا يتعلق بإيمان، ثم ما عمل القادة أن لم يروضوا الأفراد على ما فيه خيرهم؟
وأنت لابد ملاحظ نفس الظاهرة في الحياة الاجتماعية؛ ومشكلتنا الكبرى اليوم هي توازن الطبقات الاجتماعية، ولا يستطيع أحدنا أن ينكر أن بالأمة قاطبة نزوعاً إلى عدالة أتم