للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والأجرام، أما هم فيعملون لعالم النفوس والأرواح.

يعملون جادّين جاهدين، لا يبتغون من سعيهم نفعاً، ولا يُريغون من ورائه فخراً ولا ذكراً، لأنهم أشد أمانة من أن يقتطعوا لأنفسهم أو لذويهم شيئاً مما ينبغي أن يجرد كله للنفع العام.

يعملون لا مستبديّن بالرأي ولا مستأثرين؛ بل مشاورين مصغين مسرعين، حتى إذا اتسق لهم الرأي الذي يرون فيه منفعة المجموع، أسرعوا إلى إمضائه ولو جاء من أصغر الجميع.

أما رأى الجماعة، فشرعٌ عندهم مشروع، وقضاءُ مبرمٌ محتوم.

يعملون صادقين مخلصين لله وللنفع العام. لا كبر ولا مخيلة ولا استئثار بمنفعة من المنصب والجاه، بل ليس عندهم إلا الإيثار والتواضع، والرقة للضعفاء. وهيهات أن يؤثروا أحداً على أحد إلا بطاعة الله وما قدم من الخير للمجموع. ولعمري، لتلك أعلى صور الديمقراطية التي يحلم بها أجلّ الفلاسفة من قديم الزمان

وإذا كان هؤلاء الخلفاء قد انعقد لهم أعظم المجد، المجد الخالد على الدهر، فلأنهم لم يريغوه ولم يسعوا له، ولم يشغل هو جزءاً من نفوسهم جليلاً ولا دقيقاً

وبعد، فلا شك أن مما أصفاهم لطلب النفع العام، وتجافى بهم عن الاستئثار حتى بالنفع الخاص، هو طول الذكر للموت. وكيف لهم بنسيانه، وهذه الشمس العظيمة، باعثة الحياة والحركة في العالم تموت كل يوم، بمرأى منهم، بعد أقوى الحياة، ولكل شيء نهاية، ولكل سائلةٍ قرار!

وإذا كانت الشمس تعود كل يوم فتُوالى سعيها في النفع والتجديد والإحياء، فإن زعيماً لن يعود بعد موته، ولو لإصلاح ما عسى أن يكون قد أفسد وتعمير ما عسى أن يكون قد خرّب. فما له، بعد الموت بالأمر يدان!

هذا بعض ما يلهمه حديث الهجرة، وإن فيه لعبرة.

عبد العزيز البشري

<<  <  ج:
ص:  >  >>