للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لامرأته بهجائها المقذع، دون أن يرعى للميت حرمة ولا للمرأة كرامة، كقوله:

كانت منافقة الحياة وموتها ... خزي علانية عليك وعار

فلئن بكيت على الأتان لقد بكى ... جزعا غداة فراقها الأعيار

تبكي على امرأةٍ وعندك مثلها ... قَعساءُ ليس لها عليك خِمار

وليكفينك فقدَ زوجتك التي ... هلكت موقعة الظهور قصار

إن الزيارة في الحياة ولا أرى ... ميتا إذا دخل القبور يُزار

ورأي الفرزدق في المرأة يدل على جفاء طبع وسوء أنفة، وربما دل أيضا على منزلتها في المجتمع العربي في ذلك العهد؛ ولا نستنبط ذلك من قوله في زوجة جرير، فقد يكون للخصومة بعض الأثر في سوئه، وإنما نستنبطه من قوله في زوجته هو حين ماتت:

يقولون زُر حدراء والترب دونها ... وكيف بشيء وصله قد تقطعا

ولست وإن عزت عليَّ بزائر ... ترابا على مرموسه قد تضعضعا

وأهون مفقود إذا الموت ناله ... على المرء في أصحابه من تقنعا

يقول ابن خنزير بكيْتَ ولم تكن ... على امرأة عيني أخال لتدمعا

وأهون رزء لامرئ غير عاجز ... رزية مرتج الروادف أفرغا

على أن طبيعة المهاجاة مع جرير، وشهوة الغلبة عند العامة، ونفاد المعاني السامية في الهجاء على طول المدة، وبلادة الحس وهوان النفس باعتياد الذم، قد دعت الفرزدق كما دعت جريرا إلى التدرج في الإقذاع والبذاء، حتى خرج شعرهما في النقائض على قوته وجودته عن الحد المألوف بين السفلة. ولكن الفرزدق مع تبذله كان يصيخ أحيانا إلى وازع الدين لتشيعه، فيتوب عن قرض الشعر، ويكف عن هجاء الناس، ويقيد نفسه ليحفظ القرآن ويقول:

ألم ترني عاهدت ربي وأنني ... لَبَينَ رتاج قائما ومقام

على قسم لا أشتم الدهر مسلما ... ولا خارجا من فيَّ سوء كلام

أو يجيب إلى داعي الشرف لحسبه فيصدر في الهجاء عن طبع أبي ونفس كريمة، فتسمو معانيه وتعف ألفاظه، كقوله في معاوية وقد حبس عنده مالاً لأحد أعمامه بعد وفاته:

أبوك وعمي يا معاويَ أورثا ... تراثاً فيحتاز التراثَ أقاربه

<<  <  ج:
ص:  >  >>