وحواشي الغيطان، سلاسل زبرجدية من الريحان والعشب. لذلك أمكن شعراء الريف في وصف الخريف وأبدعوا. وأما ذلك الربيع الجغرافي الذي يقبل على مصر مع الرياح الخمسينية والعواصف الرملية والتقلبات الجوية فإنه أرادا فصول العام. يطرد النسيم بالسموم، ويخنق العطر بالغبار، ويذبل الزهر باللهيب، ويرمي الطير بالبكم، وفسد المزاج بالوخومة. ثم يكون حلوله بعد رحيل شتاء هادئ جميل، في هوائه الدفء، وفي جوه الصحو، وفي سمائه الإشراق، وفي أيامه النشاط، وفي لياليه الأنس. فإذا رأيت الريف في الشتاء، رأيت الأرض على مدى البصر قد غطاها بساط من السندس الأخضر، تخف خضرته في حقول القمح فتكون كالزمرد، وتثقل في حقول البرسيم فتكون كالفيروز؛ فلا يجد الشاعر المصري وقد أنتقل من رقة هذا الشتاء إلى قسوة ذلك الربيع ما يجده الشاعر الأوربي من الحياة والمرح والبهجة والنشوة والطلاقة حين ينتقل من شتائه المكفن بالثلوج إلى ربيعه المكسو بالورود
للربع في الشعر الأوربي أرخم الأوتار وأعذب الألحان من موسيقى
الشاعر؛ لأن الشتاء في أوربا عناد طويل وهم ثقيل: ظلام متكاثف
يحجب السماء، ومطر واكف يغمر الأرض، وبرد قارص يهرأ
الأجساد، وغمام متراكم بسد الأفق فلا ترى شعاع شمس ولا خفقة
طائر؛ وثلج متراكب يطمر الثرى فلا تجد عشبة في مرج ولا زهرة
في حديقة. والناس هناك في حنين دائم إلى الربيع، لأنه في دنياهم
حياة بعد موت، وابتهاج بعد كآبة. ولشعرائهم فيما يبشرهم بمقدمة
رقائق من الشعر الشاعر، تقرأها في البشريات الأولى، كشيوع الدفء
في النسيم، ودبيب الحياة في الشجر، وعودة العصفور المهاجر إلى
عشه، وخرير الجدول الجامد بعد صمته. فإذا أقبل الربيع متعهم بما
حرموه طويلا من جلوت الطبيعة في الأفق المشرق، والروض البهيج،