مما سيلقاها في ثنايا هذه الصفحات التي بدت كأنها صحف الغيب تنفتح عن المقادير واحدا بعد آخر.
حتى إذا بلغ رفائيل الكوخ الذي حمل إليه جوليا، فلم ير الا ظلاما ولم يسمع بين الظلام نأمة حي، فدار يقبل الجدار والجدار، حتى بلغ المكان الذي ركع فيه بين يدي جوليا وهي في غشيتها يوم البحيرة. ثم يتحامل إلى جدول يأكل على حافته ما يمسك ذماءه. على ذكرى قاتلة، وحرقة يعيا بها الوصف.
قرأت حتى جاء الملاح إلى رفائيل برسالة من صديقه لويس يبلغه رسائل جوليا، فعاد رفائيل إلى حجرته يسير إلى مهلكه على شعاع ذاو من أشعة الشمس الغاربة. يفض رفائيل الغلاف عن رسالة لويس ثم عن رسائل باريس فإذا كتاب معلم بالسواد، وإذا خط (ألن) لا خط جوليا. يقرأ سطورا سوداء تنعى إليه جوليا. وينظر بصره الزائغ فإذا خط جوليا نفسها، أجل خط جوليا نفسها، ولكنها كلمة أرادت قلمها عليها وهي في غمرات الموت تعزي رفائيل عن نفسها، فلله ما أفظعها تعزية! تركت رفائيل يخر مغشيا عليه. وخررت على فراشي فبكيت ثم بكيت ثم لج بي البكاء.
وحاولت سدى أن أسكن جأشي أو أكفكف دمعي، ما تعمدت البكاء ولا رجوته، ولا خلت أن أنتهي إليه، ولكنه كان وحيا من الحزن والدمع لا أعرف من أين هبط، بل ثورة من هموم راكدة، وأحزان كامنة، كانت قصة رفائيل لها كقداحة الزناد. أو كضربة مسحاة على نبع يدافع الثرى لينفجر.
كذلك انتهت بي قصة رفائيل، وكذلك أبكي لامرتين بعد مائة سنة شاعراً مجهولا يشبه لامرتين طبعاً مكتئباً، وقلبا منقضباً، ونفساً ملتهبة. شاعرا قد يبلغ به الاعتداد بنفسه أن يظن أن ليس بينه وبين أن يكون لامرتينا آخر الا (التأملات).
كذلك فعلت بي قصة رفائيل، فلما أفقت لم أدر أأساء إلى لامرتين أم أحسن، ولم أدر أأحمد صديقي الزيات أم ألحاه؟.