حياته بشر من الحيرة، وكثيراً ما أقدمت بالإنسان على الهلاك.
إن نزعات الإنسان كثيرة مختلفة، نزعات إلى اللذة والى الغلبة والسيطرة والى إيذاء من يخالفه، وحسد من يفضُله، والبغي على من يحسده، والى جمع المال والحرص عليه. وهو يحب ويبغض، ويسكن وينفر، ويرضى ويغضب، وفي كل هذا نزوات ونزعات.
ومواضع هذه النزعات كثيرة لا تحد، تعرض للإنسان كل حين، وفي كل مكان، فهو إن لم يعتصم بالعقائد والمذاهب يمضي على غلوائه إلى أهوائه، ويضطرب فيأخذ الشيء حيناً ويدعه حيناً، وينهج السبيل وقتاً ويحيد عنه وقتاً. شريعته رغبته، وقانونه نزعته وكيف تكون الرغبات المتغيرة والنزعات المتقلبة شريعة أو قانوناً؟ وهذا فرق ما بين الخير والشرير، والمصلح والمفسد.
وإذا حار الإنسان أو سار على هواه، اضطرب في نفسه، واضطرب في جماعته، وصادمت أهواؤه أهواء غيره، فصار أمره في الجماعة نزاعاً وشقاقاً، واختلافاً وافتراقاً.
وهذه النزعات كثيرة كثرة الحسيات المحيطة بالإنسان وهي لا تعد، والجزئيات التي تتعلق بها رغبته وهي لا تحصى؛ فلا بد من عقيدة أو مذهب يرد هذه الكثرة الحسية إلى معنى جامع من معاني الخير أو الشر، فيسير الإنسان على قانون من التحريم والتحليل، والعرف والنكر. فإذا التزم الإنسان العدل والإحسان - مثلا - حسنت له آلاف من الأعمال الجزئية التي يرى فيها معنى العدل أو الإحسان، واستقام على هذه الطريقة لا يتردد في كل حادثة، ولا يتحير في كل جزئية. وإذا كره الجور والإساءة فكذلك يتجنب آلافاً من الأعمال يدرك فيها معنى الجور والإساءة. وهكذا تجمع معاني الخير والشر في نفس الإنسان، هذه الجزئيات التي لا تنتهي، وتردها إلى كليات يشرع بها قوانين يسار عليها.
وإذا انتقلنا من الجزئيات الحسية إلى الكليات المعنوية، فقد انتقلنا من العالم الخارجي إلى النفس، ومن الماديات إلى المعنويات، ومن الجثمانيات إلى الروحيات. يجب أن نزكي النفوس ونزيدها إدراكا للمعاني وكلفاً بها، حتى تسيطر على الحسيات سيطرة كاملة، فتعمل الخير وتجتنب الشر، غير مبالية بآلاف الصور الحسية وآلاف اللذات الجزئية.
ويسمو الإنسان شيئاً فشيئاً إلى إدراك اللذات المعنوية التي لا تحد ولا تنتهي، ولا يقدرُها قدرَها إلا من عرفها وأنس بها، ويتمكن الإنسان في عالم المعاني، حتى يسمو على الحدود،