حدود الزمان والمكان والأشخاص، فتتسع حياته، وتعظم همته، ويكلف بكل جليل، وينفر من كل حقير، ويُكبر بالقوانين العامة، ويستصغر المنافع الخاصة.
إذا جمعت النفس الواحدة هذه المعاني أو هذه القوانين، وجمعت الأنفس الكثيرة أي الجماعة أو الأمة هذه المعاني وهذه القوانين، استقام الواحد على طريقه مؤتلفاً مع كل واحد، وسارت الجماعة في طريقها متآلفة متحابة.
وحينئذ يكون سعي الواحد لنفسه وللجماعة كل حين، إذ التأمت منفعته ومنفعتها بهذه القوانين الجامعة المؤلِّفة، وكان صلاحه صلاحها، وفساده في فسادها.
وترقى هذه المعاني في النفوس وتتمكن حتى يجد العامل الخير كل الخير، واللذة كل اللذة، في إعطاء غيره بالعدل، وفي حرمان نفسه بالعدل، وحتى يكره كل الكراهة أن يأخذ ما ليس من حقه، ويأبى كل الإباء أن يستمتع بما يؤذي غيره، بل لا يجد فيها لذة ومتاعاً، ولكن ألماً وندماً.
ثم ترقى هذه المعاني في النفوس وتتمكن، حتى يبلغ الإنسان المرتبة التي سماها بعض الصوفية مرتبة الكلية، وهي المرتبة التي بلغت بأحد المتصوفين أن يقول:(أشعر بأني مأخوذ بذنوب الناس كلهم). كأنه أرتكب كل ما أرتكب الناس من ذنوب، فهو يألم لها ويخاف عاقبتها.
والجماعة كالنفس الواحدة تؤلف بينها العقائد وتهديها الشرائع، وتنشئها التربية على العمل بالعقيدة وإطاعة الشريعة، فتجتمع آحادها، وتتعاون أفرادها، فتلقى الحوادث بعقائد تثبتها، وشرائع تقومها، مجتمعة غير متنافرة، متعاونة غير متخاذلة، فتسير إلى غاية معروفة، على سبيل بينة، قوية على السير، متعاونة عليه، محتملة كل مشقة، مقتحمة كل عقبة.
والأمة التي لا تضمر عقيدة صحيحة، ولا تطيع شريعة قويمة، ولا يؤلف بينها نظام جامع، ولا يثبتها في اللزبات إيمان ولا خلق، فتلقى الخطوب فزعة هلعة، متدابرة متنافرة، متجادلة متلاعنة، كثلة من الغنم تفجؤها الذئاب.
فالعقائد والمذاهب والشرائع هي وسائل الوفاق في النفس الواحدة، وفي الجماعة، وعلى قدر قوتها وصحتها تكون قوة الائتلاف وصحته، وتكون استقامة الواحد والجماعة على العمل الصالح، والدأب على المسير والصبر عليه، والثبات في الشدائد حتى تزول، والتجلد في