إن المرأة الحبيبة هي النبع الصافي النمير الذي يرى المحب الصادق في كل قطرة منه حياة تتلألأ في روحه بالمنى، فإذا أرسلت هذه الحبيبة في دمه قطرة واحدة من مائها - أي من حبها - أطفأت هذه الواحدة كل النيران الملتاعة التي تجفف بحرِّها ماءَ حياته. فإذا منعتْ عنه غيثها جعلت كل أفكاره وأحلامه وأمانيه تحتطب من الحياة ما تؤرِّث به تلك النار المبيدة التي لا تنفخ نفخها على شيء إلا جعلته رماداً أغبر. ويومئذ تتحول الحياة فيه إلى خمود بليد، أو إلى حماقة مجنونة كما يعترض الرماد للريح العاصف تطير به في كل وجه حتى يتفرق. . .
ثم سكت صاحبي. . .، وخيل أليّ أن غمامة سوداء داجية من ذكرى أحزانه وآلامه، قد أظلَّت عليه وتدانت أهدابها، فهو يرفع يمينه إلى جبهته، ثم يُمرها إلى ناصيته، إلى يافوخه يضغط عليه. ويتنفس خلال ذلك أنفاساً جاهدة ينتزعها انتزاعاً من أقصى منابع الحياة في قرارة نفسه. . . ما أقسى الذكرى إذا ضربت في القلب بفأسها تحطمُ وتدِّمر وتنقضُ بناء الأيام الماضية!
إن غبار هذا الهدم ليرتفع ويثور حتى يملأ الجو النفسي بما يضجر ويخنق من ترابها، وما أضعف الرجل إذا أخذت الذكرى تلح عليه إلحاح الكبرياء، تتحدى الإنسانية والرجولة بأوهن الفكر! الذكرى. . .! هذا شيء مخيف مفزع. إنها الشبح الذي يدب من بين القبور المهجورة التي تناثرت فيها أشلاء الموتى. إنها تقتل بالرعب، فإذا أتت المحب ذكرى حبيبه، فذاك شبح هائل يقتله بالرعب والحنين معاً
أقول لنفسي: أيها الصديق البائس! إذا لا تعرف طريقك إلى النسيان؟ لماذا تقف في مقبرة أفكارك دائماً فترتاع وتتألم؟ لماذا لا تحاول أن تسخر من الحياة التي سخرت منك؟ لماذا أنت حائر أيها الصديق؟ وبقيت أتداول الهاجس من أفكاري فيه، حتى شُغِلتُ به عنه. ثم جاءني صوته من بعيد كأنه كان يتكلم في بعض أحلامي تحت النوم:
اسمع. . .! اسمع يا صديقي! لقد كنت أفكِّر في بعض ما شغلني عن تمام حديثي قبلُ. لقد سألتَني وساءلت نفسك: أهكذا يضمحل الرَّجل؟ أما إني لا أستطيعُ أن أضعَ لك اللغة وضعاً جديداً حتى أعبِّر لك عن كل خالجة من خوالج النفس الإنسانية حين تضطرب فتهتز فتطير