هذي البقاع ليست كثيرة على الأرض ولكنها خلقت لتكون مسرحا للمشاكل والمعارك والتصادم وتتابع الحوادث والخطوب. إن مثلها كمثل بعض الناس ممن يأتي إلى الدنيا ليثير ضجة بين الخلق من يوم مولده إلى يوم وفاته كأنهم جاءوا إلى الدنيا تحت طالع من طوالع الضجيج أو سوء الحظ، كذلك هذه الرقعة من الماء والأرض والجبال، أتراها قد برزت للوجود تحت برج خاص من بروج السماء، فحكمت عليها الأقدار أن تكون فريسة للطامعين من ذوي الغلبة والسلطان، وموطناً للحروب والقتال، وأن يكتب على أهلها تحمل مصائب الدهر من ضيق الحصار ونقص في الأموال والأنفس، وتحمل غضب الطبيعة فما تثيره من أوبئة وزلازل، أن يكتب في سجل القدر لهذه البقعة من الأرض فيقترن اسمها بالعز آنا وتعلو علوا كبيرا حتى تسمو على غيرها من بقاع الأرض، ثم يلاحقها سوء الطالع فترى الأيام السود وتذوق الويل المرة بعد المرة حينما يطأها الفاتحون والغزاة، فتندك صروحها وتفنى بشاشة أهلها وتبكي نساؤها بكاء طويل في الليل كما يتحدث بذلك تاريخها في أكثر من عشرين قرنا من الزمن؟
وغريب أمر هذه البقعة: تقوم عليها المدنيات المختلفة وتتبادلها الشعوب، وينطق أهلها بكل لسان ويفنى شعب بعد شعب على أرضها ولكنها تخرج من وسط النكبات والمصائب وهي باقية لن تبيد، لأن الحياة لا تلبث أن تعود إليها. ولا تزال إلى اليوم إنطاكية وما حولها: ترى أسوارها القديمة وتلمس عظمتها الفانية. تراها صغيرة بجانب ما كانت عليه، ومع هذا تشعرك بماضيها ومجدها، وقد يدخل المرء مستهينا بها فيخرج منها وهو حامل في نفسه ما يدعو لاكبارها، إن فيها سراً يجبر الناس على احترامها.
نعم لقد قدر لهذه البقعة من الأرض أن تبرز خلال العصور الماضية وأن يتحدث عنها الناس من أهل الشرق والغرب، وسنبذل بعض الجهد لنأتي بشيء من ذكرها في كل عصر من العصور السالفة وخصوصا ذلك العصر المملوء بالبطولة والكفاح: عصر الحروب الصليبية، ونذكر ما حولها من حصون الإفرنج وما أقيم أمامها من حصون المسلمين وقلاعهم والكتابة في هذه الناحية من أحب الأشياء إلى من يؤمن بعظمة ماضينا، ولكن هناك ناحية لا تزال خافية عن قراء العربية هي أهمية هذا الركن من العالم في الحرب