للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مظاهرها، وأحسن وجوهها، وأعدل سيرها، وأرحم قوانينها، وأجل أعمالها، كل أولئك تقصد إليه أخلاق القرآن.

من يتدبر القرآن يعرف أن القصد الآخر الذي ترمي إليه تربية القرآن هو أن يحرر الإنسان من أهوائه وشهواته، وأن تقوى نفسه بالأخلاق القوية القويمة، وأن يزود عقله بالمعرفة، ثم أن يعمل بهذه النفس المحررة القوية وهذا العقل القويم في معترك الحياة مبتغياً الخير لنفسه وللناس كافة. ذلكم مقصد القرآن فيما يعلم من الأخلاق

يريد القرآن نفساً محررة من الأهواء والشهوات، وسأبين هذا من بعد، ولكني أسارع فأقول هنا: ليس معنى التحرر من الشهوات الحرمان منها؛ فإن القرآن يريد للناس أن يستمتعوا بهذه الحياة، ولا يزوروا عنها ويتجنبوها: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين). (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، إن الله لا يحب المفسدين)

القرآن لا يدعو إلى الرهبانية ولا يرضاها، وإنما يدعو الإنسان إلى أن يرمي بنفسه في معارك الحياة مزوداً بالأخلاق القوية الفاضلة، مريداً الخير لنفسه وللناس حتى يعيش راضياً مرضياً. فمن أعتزل معارك الحياة فقد فر من الواجب، وجنح إلى الراحة، وآثر البطالة. وليس تمسكه بالأخلاق الفاضلة بعد هذا إلا كما يتسلح الجندي ثم يترهب في دير. والعبادة الحق في شرعة الإسلام هي الجهاد في هذه الحياة. كل عمران في الأرض، وكل إحسان إلى النفس أو الأقرباء أو الأصدقاء أو عامة الناس أو إلى الحيوان الأعجم؛ كل هذه عبادة يأمر بها الإسلام بل يعدها أفضل العبادات. وقد قال أحد صوفية المسلمين: (ليست الولاية أن يمشي الإنسان على الماء أو يطير في الهواء، ولكنها أن يعمل الإنسان في الأرض فيزرع أو يتجر وينعم بالعيش وهو لا يغفل عن الله طرفة عين) ومن أجل هذا كانت المرابطة في الثغور، أي حماية حدود البلاد، من أفضل العبادات عند المسلمين. وكم يحدثنا التاريخ عن علماء أتقياء أقاموا في الثغور ورابطوا العدو، يرون أن عبادتهم وورعهم لا يغنيان عن هذه الرابطة شيئاً. ولأن المرابطة عبادة سمى الصالحون في بعض

<<  <  ج:
ص:  >  >>