ولاحظ الأستاذ العقاد عن المدة بين نظم القصيدة التي منها هذان البيتان وموت أخت ابن العميد التي كانت التعزية فيها، أنها لا تزيد كثيرا على سنة واحدة. فانظر كيف كان تلقف الأدباء لآثار المتنبي وتلقيهم لها بالقبول، برغم وجود كثير من المنافسين له والعاملين على إخماد ذكراه كما يعبر الرئيس ابن العميد!
فمقام المتنبي دائما أرفع من أن يتطاول إليه أحد، وشأنه أكبر من أن يؤثر فيه مقال أهل الحسد. وما كثرت هذه التبعات لشعره فكثرت بسببها العثرات التي يأخذها عليه خصومه، إلا لأن نبوغه كان أكمل وأتم، وعبقريته أجل وأعظم؛ والناس منذ كانوا مولعون بالعظماء يتلمسون عيوبهم فيظهرونها، ويتكشفون عوراتهم فلا يسترونها. على أن جل ما أخذ على المتنبي قد رده المحققون وبينوا أن الصواب ما ذهب إليه هو؛ وبعض الباقي هو مما لم يخل منه كاتب ولا شاعر في القديم والحديث، وأي صارم لا ينبو؟ وأين الجواد الذي لا يكبو؟
نعم، هناك هنات لا تزال لاصقة بالمتنبي فتزري بشخصه الكبير؛ ولا زال البحث العلمي بعيدا عن أن يصل فيها إلى نتيجة حاسمة، فنريد أن نلقي عليها بصيصا من نور التحقيقمعتمدين في الكثير على شعر المتنبي الذي هو أصقل مرآة لنفسيته وأخلاقه. وسيكون اعتمادنا في الأكثر على نسخة خطية عتيقة من ديوانه توجد بالخزانة الكنونية. وهذه الهنات التي نقصد إلى الكلام فيها هي تنبؤه وعقيدته وأخلاقه.
فأما تنبؤه فهو الزلة الكبرى التي تؤخذ على ذلك العقل الجبار، وهو في الحقيقة أمر لو صح لكان ذريعة إلى اتهامه في سلامة الادراك. ولكن من المعروف أن المعري كان يشك في صحة ذلك، ويقول في هذا اللقب الذي غلب على أبي الطيب: إن اشتقاقه من النبوة أي الارتفاع، لما كان من ترفعه على الخلق، لا من النبأ الذي منه اشتاق النبئ. وهذا الخبر وحده كاف في نفي هذه التهمة عنه، لا لتشكك المعري فيها، ولكن لما يتضمنه ذلك من إخفاء قضية التنبؤ وعدم شهرتها بين الخاصة فأبله بالعامة، وإلا لما سأل ابن القارح أبا العلاء عن حقيقتها فأجابه أبو العلاء بذلك الجواب. وهذا على أن ما بين المتنبي وأبي العلاء من الزمن لا يجاوز العقد الواحد من السنين. فكيف خفي هذا الأمر ودفن مع المتنبي حتى أن اثنين من كبار أدباء ذلك العصر لا يجدان سبيلا إلى التوثق منه، مع أن العادة في