مثله إذا وقع ولو ممن هو أدنى من المتنبي مقاما، أن يشتهر ويتعالم فيتناقله الناس ولا يبقى إحدى ليس عنده نبأ منه!
وأكثر من خبر المعري دلالة على هذا المعنى، خبر ابن جني الذي ذكر له أبو القاسم الشريف (الشريف الغرناطي) في شرح مقصورة حازم، قال: (وحكى أبو الفتح ابن جني قال: سمعت أبا الطيب المتنبي يقول: إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
أنا تِرْبُ الندَى وربُّ القوافي ... وسمامُ العدَى وغيظُ الحسودِ
أنا فِي أمةٍ تدارَكها الله ... غريبٌ كصالح في ثُمودِ)
فهو لو كان تنبأ حقيقة لما جهل ذلك من أمره حتى يحتاج إلى البيان، وإلا كان كالمعتذر بأقبح من الزلة. وصفوة القول أن قضية تنبئه لم تثبت حتى في زمن حياته. وهي إن لم تكن من إشاعات خصومه الكاذبة فهي على الأرجح مما نبز به لتشبيهه نفسه بالأنبياء كما في البيتين السابقين والبيت الآخر الذي يقول فيه:
ما مقامي بأرض نخلة إلا ... كمقام المسيح بين اليهود
وننظر في ديوانه فلا نجد ما يدل على هذه القضية لا تصريحا ولا تلويحا إلا ما كان من أمر سجنه في صباه بسبب وشاية بعض الناس به إلى الوالي. فنقول ما هي هذه الوشاية؟ أتراها مما له علاقة بهذا الأمر؟ وتجيب نسختنا عن ذلك بما كتب فيها على القصيدة التي مدح بها الوالي فتقول: (وكان قوم في صباه وشوا به إلى السلطان وتكذبوا عليه وقالوا له قد انقاد إليه خلق من العرب، وقد عزم على أخذ بلدك، حتى أوحشوه منه. فاعتقله وضيق عليه فقال يمدحه). فالوشاية إذا هي خروجه على السلطان لا ادعاؤه النبوة. واستمع إلى ما يقوله في استعطاف الوالي من تلك القصيدة:
أمالك رقي ومن شأنه ... هبات اللجين وعتق العبيد
دعوتك عند انقطاع الرجا ... ء والموت مني كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلي ... وأوْهن رجلىِ ثقلُ الحديد
وقد كان مشيهما في النعال ... فقد صار مشيهما في القيود
وكنت من الناس في محفل ... فها أنا في محفل من قرود
يريد المسجونين من اللصوص والجناة المختلفي الطبقات السيئي السلوك