يشبه الليل البهيم، والأشجان فتشيع ببرودة القبور في عروقي!
عجيب والله هذا الموقف من الأبالسة التي وقفت تترصد فؤادي، وتغري بالموبقات روحي، وتداعب إيماني فتهزه ذلك الهز العنيف القاسي!
ألم تعد في السموات رحمة؟ أهكذا تكون خاتمة ذاك اللسان الرطب الكريم؟ وأين إذن قدرة الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟ وماذا وراء هذا الوجود الذي يكظ ويزحم السموات، ويملأ الدنيا والآخرة بما نعجز عن تعليله فنهم عقولنا بالقصور، ونعترف ضعفاء مخذولين بوهن أفهامنا عن إدراكه والنفاذ إلى كنهه؟!
وهكذا كانت الأبالسة ترقص في رأسي المحزون، وتوسوس في قلبي المضطرب، وتهتف في أذني الحائرين. . . وكنت أحاول أن أصرفها عني فلا أستطيع، بل كنت أتهم نفسي وأنا أحاول ذلك بالنفاق، وأرميها بالرياء الديني المصطنع، وكان غروري يأبى لي أن أكون منافقاً أو مرائياً
وسمعت أعز الأمهات تعالج في صدرها شهقات وزفرات، فأسرعت إلى سريرها وبي أنها سكرة الموت، فأسندت الرأس الكريم إلى صدري، وتناولت كوباً من الماء به قطرات من الدواء فوضعتها قريباً من شفتيها. . . ولكنها لم تحس من الماء حسوة! بل نظرت إلي بعينين تترقرق فيهما دموع الحنان، فرحت أكلمها على عادتي كلاما كله ضحك يخنقه البكاء، وكله فكاهة تلبس أردية الحزن القاتمة!
لشد ما تخنقني عبراتي وأنا أحدثك بهذا أيها الصديق!
لقد حدث هذا منذ عشر سنوات، فلم أخط فيه حرفاً، ولم أحرك به لساني لمخلوق. . . ولولا أنك جادلتني في الله لآثرت أن أطوي عليه قلبي إلى الأبد. . .
لقد كانت الأبالسة تأخذ على مشاعري في تلك اللحظة، وكانت تجمع أدلتها ضد السماء في ثورة جارفة. . . وكان فؤادي يتمزق كلما ذكرت أن أعز الأمهات ستقضي دون أن تودعني بكلمة
بيد أنني سمعت كلاماً عنيفاً يتردد في صدرها، فلما أدنيت أذني من فمها، إذا هي تردد هذه الكلمة العظيمة الخالدة: