فلما استيقنتها أخذ العرق يتصبب من جسمي كله، وعرتني رجفة قوية لم أبلها من قبل. . . ثم ذكرت أبالستي. ولما أدرت وجهي من حولي، رأيتهم. . . رأيتهم رأي العين. . . كاسفي البال، شاحبي الوجوه، وقد أخذوا ينفذون من جدران الحجرة الصماء، وكان الضعفاء منهم يثبون من النوافذ المفتحة. . . حتى لم يبقى معنا منهم أحد قط!
لقد كانت هذه لحظة من لحظات الإيمان التي انتشلت روحي من ظلمات الأبالسة. . .
لقد كانت من أسعد اللحظات في حياتي!
لقد كانت بارقة الأمل التي بدت لي في تلك الصحراء المهلكة من الشك الذي ران على قلبي وتغلغل في أعماقي!
وقد زادها روعة وجمالاً وعظمة ذلك الصوت الناعم الباغم المصقول الذي أرسله المؤذن يشق هدأة الفجر:
سبحان الكريم الحليم الفتاح. . .
سبحان من شق الفجر فلاح. . .
لقد أفاقت أعز الأمهات من سكرة الموت عندما طرق سمعها ذلك النداء الحبيب الذي لبته هذه السنين الطوال، فكانت تتجافى عن المضجع الدافئ في الشتاء. . . شتاء شمال الدلتا القارس. . . كما كانت تتجافى عنه في الصيف، لتجيب دعوة ربها الكريم الفتاح، فتتوضأ بالماء الذي يشبه الثلج، ثم تلتفع بتلك (الغطفة) البيضاء الناصعة التي تجعلها في هيئة الملائكة، ثم تكبر، ثم تأخذ في صلاتها الهادئة الساكنة المطمئنة؛ حتى إذا سلمت أخذت تدعو ربها لنا جميعاً بالخير، ولزوجها الراحل بالرحمة!
يا ويح لي يا صديقي! لقد كنت أنام معها في ذلك المصلى نفسه في سرير مقابل سنين عدداً. . . وكنت أستيقظ على صلاتها ودعائها. . . وكان ابتهالها يصك أذني صكا. . . لكني كنت مع ذلك لا أتحلحل من مضجعي، ولا أتأثر قط بتلك الصلوات وهذه الدعوات. . . بل طالما كنت أستهزئ بهذا السلطان الديني العجيب الذي يقتلع تلك العجوز من مضجعها في مثل ذاك البرد، لتتوضأ ولتصلي وتناجي ربها. . .
ما كان أبدع صوت المؤذن وما كان أرقه!
لقد كان صوته العذب يجلو الصدأ عن روحي الآثمة. . . تالله لقد كان صوت (الشيخ