للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فيه، إنما المدينة الحاضرة تشمل أيضاً الناحية المعنوية التي شأنها أن حررت الفكر وأبطلت الرق وضمنت حقوق الإنسان. تشمل ناحية العلوم التي كشفت عن أسرار الطبيعة، وناحية الآداب التي سمت بالعالم إلى جو من الخيال جعله يبهج مشاعر النفس، وناحية الفنون التي أخذت بالذوق إلى أسمى درجة من درجات الرقي

على أن المدنية الحاضرة، وهي التي ظهرت في أوربا، تختلف عن غيرها من المدنيات القديمة التي ظهرت في الشرق عامة وفي حوض البحر الأبيض المتوسط خاصة؛ فالمدنية في الشرق خاضعة للدين متأثرة بالطبيعة، بينما هي في الغرب خاضعة للعقل مؤثرة في الطبيعة. ففي الشرق الجو حار والشمس ساطعة تغذي الجسم بأشعتها، والأرض خصبة تنتج المحصول الكثير والخير الوفير، مما جعلنا نحن الشرقيين نميل إلى التراخي والكسل لكثرة ما نرى أمامنا من المحاصيل التي تكفي لغذائنا دون مشقة كبيرة. وكان من أثر هذا الفتور والتراخي أن ركن الإنسان إلى الطبيعة وأخذ ينظر إليها ويتأمل فيها، فرآها تجود عليه بالمياه لري أراضيه، وبالشمس لإنضاج محصوله، فأكبرها ومجدها وأخذ يعبدها ويعبد مظاهرها كالشمس والقمر وخلافهما. من هذا كان خيال الشرقيين خصباً، فتخيلوا أدياناً مختلفة، وتصوروا مظاهر مختلفة للعبادات وهذا آت من الفراغ وقلة النشاط الذي يسد هذا الفراغ. فالشرقي بوجه عام، عابد للطبيعة متأمل فيها خاضع للدين ناظر فيه، فأثر الخيال عليه عظيم، وأثر الدين عليه عظيم، وكذلك أثر الطبيعة عليه عظيم. أما في أوربا فإن الجو بارد لا تظهر الشمس إلا في أحوال نادرة؛ لذلك احتاج الفرد إلى الكد والجهد لاستغلال الأرض حتى تنتج أكثر ما يمكنها إنتاجاً، ولاستغلال مظاهر الطبيعة ما يفيد منها أكبر إفادة، فهو مضطر لأن يأكل كثيراً ليتقي بذلك برودة الجو، وهو مضطر لأن يتدثر بالملابس الثقيلة لكي تبعد عنه أثر البرد القارس؛ من أجل هذا كان عقله كثير الاختراع وافر الإنتاج، وقد وجه هذا العقل نشاطه لتسخير قوى الطبيعة، ونجح في هذا الميدان إلى حد بعيد إذ أصبح هو المسيطر على هذه الطبيعة بدل أن تكون هي المسيطرة عليه

فكيف يجوز لنا أن نثور على المدنية الحاضرة وهي التي حكمت العقل في أمور كثيرة، أخذت ما يأخذ به ورفضت ما يرفظه، وقد غلبت الناحية العقلية على هذه المدنية، حتى كان لهذا أثر عظيم في تاريخ التطور البشري، فأول نتائج تحكيم العقل في كل شيء أن قل

<<  <  ج:
ص:  >  >>