الباحث برأيه، قد منح المؤمن من الحواس الباطنة والذوق ما قصر عن إدراكه القياس والدليل.
الناس إنما يخضعون لذي العقيدة، وليس ذوو الرأي إلا ثرثارين لا يعملون، عنوا بظواهر الحجج أكثر مما عنوا بالواقع، لا يزالون يتجادلون في آرائهم حتى يأتي ذو العقيدة فيكتسحهم.
قد يجود الرأي وقد ينفع، وقد ينير الظلام وقد يظهر الصواب، ولكن لا قيمة لذلك كله ما لم تدعمه العقيدة، وقلَّ أن تؤتي أمة من نقص في الرأي، ولكن أكثر ما تؤتي من ضعف في العقيدة، بل قد تؤتى من قبل كثرة الآراء أكثر مما تؤتى من قلتها.
الرأي جثة هامدة، لا حياة لها ما لم تنفخ فيها العقيدة من روحها، والرأي كهف مظلم لا ينير حتى تلقى عليه العقيدة من أشعتها، والرأي مستنقع راكد يبيض فوقه البعوض، والعقيدة بحر زاخر لا يسمح للهوام الوضيعة أن تتولد على ظهره، والرأي سديم يتكون، والعقيدة نجم يتألق.
ذو الرأي يخضع للظالم وللقوي، لأنه يرى أن للظالم والقوي رأيا كرأيه، ولكن ذا العقيدة يأبى الضيم ويمقت الظلم، لأنه يؤمن أن ما يعتقده من عدل وإباء هو الحق ولا حق غيره، ومن العقيدة ينبثق نور باطني يضيء جوانب النفس، ويبعث فيها القوة والحياة، يستعذب صاحبها العذاب، ويستصغر العظائم، ويستخف بالأهوال، وما المصلحون الصادقون في كل أمة إلا أصحاب العقائد فيها.
الرأي يخلق المصاعب، ويضع العقبات، ويصغي لأماني الجسد، ويثير الشبهات ويبعث على التردد، والعقيدة تقتحم الأخطار، وتزلزل الجبال، وتلفت وجه الدهر، وتغير سير التاريخ، وتنسف الشك والتردد، وتبعث الحزم واليقين، ولا تسمح إلا لمراد الروح.
ليس ينقص الشرق لنهوضه رأي، ولكن تنقصه العقيدة، فلو منح الشرق عظماء يعتقدون ما يقولون لتغير وجهه وحال حاله، واصبح شيئاً آخر، وبعدُ، فهل حُرِم الأيمان مهبط الإيمان؟