للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أو كما تعيش الذئاب والشياه في حظيرة واحدة

رحماك الله! ما هذه الحيرة الشاملة؟ لا البداوة لسذاجتها ونظامها أعجبته، ولا الحضارة بترفها وزخارفها أعجبته. لم يعجبه ما رأى من وثنية، ولم يعجبه ما رأى من نصرانية. فأين الحق؟

لقد اطمأن إلى شيء واحد وهو أن كل ما رأى ضلال؛ وحيره شيء واحد وهو سؤاله أين الهدى

حالة نفسية إذا تملكت نفسا مرهفة وشعورا دقيقا ملكت نفسه وغمرت قلبه؛ فحلا له أن يعتزل الناس لأنهم يحولون بينه وبين تفكيره ويقطعون عليه سلسلة مشاعره

لقد جرب العزلة الساعة واليوم فوجدها تفتح قلبه وتريح نفسه، ووجد فيها مفتاحا لحيرته واتجاه لهدايته فبالغ فيها حتى بلغت الشهر!

إن الناس وضوضاءهم ومناظر حياتهم يضنون نفسه فليهرب منهم، وإن منظر الطبيعة بجمالها وبهائها ورونقها ليحي نفسه فليطمئن إليه. يتعاقب عليه في عزلة الليل والنهار فيجد في كل غذاء نفسه: هذا الليل في أعلى الجبل بسكونه وهدوئه، وسمائه ونجومه، والعالم حوله كله نائم، وهو يناغي النجم، ويشاطره الاضطراب والحيرة، وهذا النهار - في أعلى الجبل أيضا - يشرف منه على العالم من تحته، فيهزأ بالناس وسخافاتهم هزؤا مشوبا برحمة، واستخفافا ممزوجا بعطف

كل ذلك وأكثر من ذلك كان يخفق له قلب محمد في غار حراء.

لقد عرف الباطل، ويريد أن يعرف الحق؛ وأدرك الضلالة ويريد أن يدرك الهدى؛ ولم يحب ما عليه الناس، ولكن يريد أن يعرف ما ينبغي أن يكون عليه الناس.

هذا الظلام فأين النور؟ وهذا العمى فأين البصر؟ وهذا ما يجب ألا يكون، فأين ما يجب أن يكون؟

لقد طلب الحق - في غار حراء - بعد أن تهيأت نفسه واستعدت روحه، وكملت مشاعره، وتوجت بالحيرة، فكانت حيرته إرهاصا لليقين، وضلاله إرهاصا للهدى

لم يطلب الحق من طريق الشعر؛ فالشاعر يتخيل ثم يخال، والشاعر يخلق ما لم يكن ولا يدرك ما يجب أن يكون، والشاعر يغني لنفسه - أولا - ولا باس أن يسمع للناس،

<<  <  ج:
ص:  >  >>