والشاعر يعيش في جو خيالي يخلقه بنفسه لنفسه. وليس هذا من النبوة في قليل ولا كثير. ولم يطلب الحق من طريق الفلسفة أو العلم، فكلاهما عبد المنطق، عبد الألفاظ، عبد الكتب، عبد النصوص؛ وأحسن أمرهما أنهما عبدان للعقل، والعقل معيب مغرور مضل؛ ولكل إنسان عقله، ولكل إنسان تفكيره، ولكل إنسان منطقه وقضاياه
إنما طلب محمد الحق من طريق أسمى من ذلك كله، وأرفع من ذلك كله: طلبه من طريق القلب، وأعلن أنه لم يطلب علما ولكن طلب إيمانا، فأعلن أنه أمي وفخر بأميته، لأن القلب فوق اللغة، وفوق الكتابة والقراءة، وفوق العلم، وفوق المنطق؛ وهو القدر المشترك بين الناس، لا يؤمن بحدود اللغة والجنس، ولا يؤمن بحدود اللسان والألوان
من أجل هذا لم يذهب - وقد حار - إلى معلم يعلمه الكتاب، ولا إلى مثقف بالكتب والأديان، وإنما فضل على ذلك كله غار حراء حيث الطبيعة على فطرتها مفتوحة أمام قلبه، وحيث يتصل هو وهي بربها وربه
لقد اهتدى إلى الصراط المستقيم، واتجه اتجاه الأنبياء، لا اتجاه الشعراء والعلماء، وتهيأ للأمر العظيم، فلمعت في قلبه الشرارة الإلهية، كما يتهيأ السحاب فيلمع البرق
لقد أضاءت له هذه الشرارة الإلهية كل شيء، وكانت رسالته من جنس هدايته؛ فرسالته أن يبعث الحياة في القلب، ويبعث الضوء إلى النفس، كالقمر يستمد نوره من الشمس، ثم يعكس أشعته الجميلة على الناس، يشترك في الاهتداء به العالم والجاهل، والذكي والغبي، والفيلسوف والعامي، على اختلاف فيما بينهم، لأن لديهم جميعا قدرا مشتركا من القلب صالحا للاهتداء
وليست العقول مسايرة في الرقي والانحطاط للقلوب، فقد يكون مريض القلب صحيح العقل، وقد يكون صحيح القلب مريض العقل، ومقياس صحة الاستفادة من النبوة صحة القلب لا صحة العقل، فلذلك آمن بلال قبل أن يؤمن عمرو بن العاص، واسلمت جارية بني مؤمل قبل أن يسلم أبو سفيان
كانت فترة غار حراء الحد الفاصل بين محمد بشرا، ومحمد بشرا رسولا. لقد صعد إليه إنسانا حائرا، وهبط منه إنسانا نبيا، مهتديا مطمئنا. صعد شاكا. وهبط مؤمنا. لمع في قلبه النور الإلهي فإذا كل شيء حوله شفاف يراه بقلبه ويكشفه بنوره