فلا تعدلن بالعلم مالاً ورفعة ... وسمر القنا أو مرهفات القواضب
وهب أدبرت دنياك عنك فلا تبل ... فعنها لقد عوضت صفو المشارب
فما قدر ذي الدنيا؟ وما قدر أهلها؟ ... وما اللهو بالأولاد أو بالكواعب؟
إذا قست ما بين العلوم وبينها ... بعقل صحيح، صادق الفكر، صائب
فما لذة تبقى، ولا عيش يقتنى ... سوى العلم أعلى من جميع المكاسب
وهكذا كانت روحه العلمية الغلابة التي كان يتعزى بها عما فاته من متاع الدنيا. وقد ظلت هذه الوظيفة محتجزة دونه حتى عام ٧٢٧ (١٣٢٧) فعادت إليه وبقيت في يده إلى سنة ٧٣٩هـ حينما اختير لقضاء الشام
وسبب آخر من أسباب الحياة المحدودة كان في يده، ولم يخل كذلك من شهوات العابثين في انتزاعه: ذلك هو وظيفة التدريس بالمدرسة المنصورية، وكانت مسندة أول الأمر إلى قاضي القضاة جمال الدين الزرعي، ثم عين قاضي قضاة الشام ٧٢٣ (١٣٢٣م) فحل تقي الدين السبكي محله، وكان جديراً بذلك. ولكن الزرعي لم يطل في قضاء الشام مقامه، فلم يلبث عاماً حتى عزل عنه. وكان صديقاً لأرغون نائب المملكة المصرية في ذلك الحين، فبلغه ذلك وهو بالحجاز، فشق عليه أن يحرم صديقه مكانه في مصر والشام؛ واستشاط غيظاً وحنقا على تقي الدين، وأقسم ليزيلنه عن مكانه، ويعيدن إليه صاحبه، متى عاد إلى مصر؛ وترامت بذلك الأخبار إلى الشيخ، ولم يكن له ما يكفل رزقه غير هذه الوظيفة، وكاد يصبح ضحية شهوة جامحة، لولا أن أرغون ما كاد يصل إلى مصر حتى قبض عليه في بعض ما كان يسود ذلك العهد؛ ففل بذلك من حده، ووقي الشيخ شر نزوته وكيده
هذا كله والعهد عهد الملك الناصر ابن قلاوون، وهو خير عهود ذلك العصر، وأقلها خضوعا للنزوات الطائشة
وقبل أن ندع هذا الدور من حياة تقي الدين السبكي، نرى أن لابد من الإشارة إلى مجهود من مجهوداته العلمية الموفقة، قام به في تلك الفترة، وقد رفع كثيراً من شأنه، وكان له أثر غير صغير في حياته، فيما نحسب، ذلك هو رده على أبي العباس ابن تيمية في مسألة الطلاق ومسألة الزيارة. وقد كتب رده على كل من المسألتين في كتابين: أحدهما موجز مجمل، والآخر كبير مفصل؛ ويظهر أنه قد أبدى في رده مقدرة فائقة في النقد والبيان،