وأبان عن سعة اطلاع وحضور بديهة، كما بعد عن الشطط والتجريح، والتزم جانب الإنصاف والمعدلة، مما دعا إلى إعجاب الأشاعرة به، وإكبار ابن تيمية نفسه له، وثنائه عليه فيما كتبه دفعا لنقده
واحسبني لا أبعد عن الصواب إذا زعمت أن هذا الرد كان السبب في توجه نظر السلطان إليه، واختياره لقضاء الشام، بعد أن لبث ذلك المنصب لعبة للأهواء منذ مات جلال الدين القزويني سنة ٧١٩ (١٣١٩) حتى سنة ٧٣٩هـ. وإصراره على ذلك على إصراراً ذهبت معه كل محاولات الطويلة في التملص من هذا التقليد، ووهن معه كل ما نذرع به لقاء هذا الأمر الذي يقدر عاقبته، ويعرف حق المعرفة خطورته
ذلك أنه وإن كان قد ذهب في رده مذهباً علمياً خالصا فقد تناول به مسألة تعني أولي الأمر كما تعني العلماء، فإن ظهور ابن تيمية في الشام بمذهبه الذي ينقض مذهب الأشاعرة، وانتصاره له بكل ما أوتي من قوة في البيان والمناظرة، فرق أهل الشام فرقتين، واجتذب إليه طائفة غير قليلة من أعيان العلماء أمثال المزي والذهبي والبرزالي: خرجوا على الأشعرية وهي المذهب الرسمي للدولة منذ كان الأيوبيون إلى ذلك العصر، بعضهم في صراحة وجلاء، وبعضهم في تنكر واستخفاء، وسنرى فيما يلي بعض الظواهر في هذا مما يؤيد ما نذهب إليه من أن اختيار السبكي لقضاء الشام كان منظوراً فيه إلى هذه الحالة، مرجواً منه القضاء على هذه الفتنة.
- ٤ -
وهكذا تولى السبكي قضاء الشام في ١٩ جمادى الآخرة سنة ٧٣٩ (٢ يناير سنة ١٣٣٩)، فغادر مصر إليها، وانتقل بذلك من حياته البسيطة الساذجة، إلى حياة مركبة معقدة، وترك بيئته الهادئة الوادعة التي ترفرف عليها روح العلم، وتسري فيها نفحات الأبوة الكريمة، إلى ذلك المضطرب الواسع الذي يموج بشتى النزعات ومختلف النزوات؛ وتسوده روح خبيثة في مذاهب يزعمون لها صفة الدين تقتتل، وشهوات باسم الحكم تفرض وتنفذ، وأين يذهب السبكي في مثل هذا الجو؟ وهو المطبوع على الصراحة في الحق، والصلابة في الخلق، والاستقامة في الرأي، إلا أن يصبح غرضا للمعاندة والمضاجرة والشهوات الخبيثة الفاجرة؛ ولهذا نجد ابنه تاج الدين يقول في هذا الصدد بلهجة مريرة: (فقبل الولاية يا لها