كانوا حفظة للثقافة اليونانية أكثر منهم مبتكرين لثقافة خاصة دعوى أملاها عدم الدراسة للثقافة الإسلامية دراسة وافية
والحق أن فضلهم على المدنية الحديثة كان من الناحيتين جميعاً: من ناحية حفظهم لثقافة غيرهم من الأمم ولولاهم لضاع كثير منها، ومن ناحية ما أنشئوا وابتكروا وبثوا من روح في الثقافات القديمة. وقد بدأ علماء أوروبا يبحثون نواحي تأثير الثقافة الإسلامية في الثقافة الأوروبية؛ وكان من آخر ما أظهروا في هذا الباب كتاب ما خلفه الإسلام تناولوا فيه أثر الثقافة الإسلامية في الجغرافيا والتجارة، وفي القانون والاجتماع والفن والعمارة وفي الأدب، وفي التصوف وفي الفلسفة واللاهوت، وفي العلم والطب، وفي الهيئة والرياضيات. وهذا البحث وإن كان آخر ما ألفوا فهو أول ما كتشفوا من طريق يشرف على آثار قيمة ضخمة لا تزال تنتظر مكتشفين أبعد مدى، وأقوى على تحمل مشاق الطريق
ولعلنا لكي نقرب من موضوعنا نسأل هذا السؤال: هل كان العالم يستطيع أن يقف على درجة السلم التي يقف عليها الآن لو لم تكن مدنية الإسلام؟ هل لو لم يكن في الوجود مدنية بغداد ومدنية قرطبة والحروب الصليبية كانت المدنية الحديثة تبلغ ما بلغت الآن؟ هل كانت النهضة الأوربية الحديثة تحدث في الزمن الذي حدثت فيه لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية؟
هذا سؤال واحد في أوضاع مختلفة والإجابة عنه يسيرة، وهي إجابة بالنفي القاطع. ولا يعلم إلا الله كم كانت تتأخر المدنية الحديثة لو لم ترتكز على المدنية الإسلامية وتطير من على عاتقها، فالمتتبع لتاريخ المدنيات يرى أنه حلقات يسلم بعضها إلى بعض، ويستفيد لاحقها بما وصل إليه سابقها. وقد كانت المدنية الإسلامية هي التي في الذروة قبيل المدنية الحديثة، ولم يكن يضارع بغداد وقرطبة مدينة أخرى في العالم في مدنيتهما وثقافتهما وصناعتهما، ونضمهما الإدارية والحربية. ولتوضيح ذلك ننظر في أسس المدنية الحديثة ونبين علاقة هذه الأسس بالمدنية الإسلامية
لقد بنيت النهضة الحديثة في الثقافة على أساسين وهما الشك والتجربة - كانت الثقافة في القرون الوسطى تعتمد كل الاعتماد على آراء اليونان وتقدس ما قال أفلاطون وأرسطو كل التقديس. فإذا قال أرسطو قولاً فلا يمكن إلاّ أن يكون صحيحاً، وإذا كان الحس يدل على