غير ما يقول وجب أن نعتبر الحس خدّاعاً، والحقيقة ما قال أرسطو. لقد قال أرسطو إن الجسم إذا كان أثقل كان إلى الأرض أسرع، ولكن صعد بعضهم من مكان عال ورمى في وقت واحد حديدتين وزن إحداهما ضعف الأخرى فوصلا إلى الأرض معاً، ومع هذا قالوا إن الحق ما قال أرسطو، ويجب أن يؤول الواقع وهكذا. وكانوا يعتمدون كل الاعتماد على القياس المنطقي وحده يؤيدون به المذاهب والآراء، والقياس المنطقي وحده وسيلة عقيمة لأنه يجعلك تسلم بالمقدمات تسليما أعمى وتعنى فيه بالشكل. فجاءت النهضة الحديثة تشك في هذه المقدمات العامة وتمنحها وتجري التجارب عليها ولا تؤمن بشيء حتى تدل التجارب على صحته، وكان هذا دعامة النهضة الحديثة. والحق أن هذه طريقة لم تكن بعيدة عن المسلمين ولا خفيت عليهم؛ فالتاريخ يحدثنا أن النّظّام ألف في نقد آراء أرسطو، وأن تلميذه الجاحظ في كتابه الحيوان يطلع اطلاعاً واسعاً على أقوال أرسطو ثم لا يمنحها هذا التقديس؛ بل ينقدها نقداً جريئاً ويقول قد جرّبنا قول أرسطو فلم نجده صحيحاً. ويقول:(إن قوله هذا غريب)، و (هو قول لا يجيزه العقل) إلى كثير من أمثال ذلك، وربما فضّل على قوله قولاً آخر قاله عربي جاهلي في بيت من الشعر، لأنه أقرب إلى العقل. فهو بهذا قد جعل عقله حكماً على أرسطو، على حين أن فلاسفة القرون الوسطى في أوروبا جعلوا أرسطو حكما على العقل، والبيروني يحكم عقله في الرياضيات، ويقارن بين نظريات اليونان ونظريات الهند، ويفضل هذه حيناً وهذه حيناً فكتابه الآثار الباقية، وحيناً لا يقبل هذه ولا تلك ويعتمد على عقله الصرف، ويقف الغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال) الموقف الذي وقفه بعدُ ديكارت فيقول: (إنه رأى صبيان النصارى ينشئون على النصرانية، وصبيان اليهود على اليهودية، وصبيان المسلمين على الإسلام، وأنه لم يقنع بهذا الدين التقليدي التلقيني، وطلب أن يعلم حقائق الأمور وأن يبني دينه على يقين، وقال إنه بدأ بالشك في كل ذلك حتى يقوم البرهان على صحته، ولم يسمح لنفسه باعتقاد حتى يتأكد من صحته) وقال: (كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه فليس بعلم يقيني)، وابن خلدون نظر إلى المجتمع الإنساني هذا النظر الحر الطليق فاستفاد مما قال أرسطو وغيره ولكنه لم يتقيد به، ونظر في مجتمعات لم يصل إليها علم أرسطو وهي القبائل العربية والدول